الجمعة، 30 مارس 2012

الصهيونية في العقل العربي

ماالصهيونية :
فى البدء كانت الصهيونية نظرية ، اصبحت استراتيجية بالعناصر الثلاثة لكلاستراتيجية : التنظيم . الخطة. الهدف. ثم اصبحت الصهيونية مواقف وحركة ومعاركتكتيكية . ولايعنى قولنا ان الصهيونية كانت ثم اصبحت انها انتقلت من مرحلة انقضتالى مرحلة جديدة ، بل يعنى انهاا قد تمت واضيف الى مضمونها ا لفكرى مضمون استراتيجىثم مضامين تكتيكية . فهى نظرية على المستو ى الفكرى. وهى تنظيم ذو خطط واهداف محددةعلى المستوى الاستراتيجى وهى حركة جزئية او مرحلية . فكرية او عملية ، فردية اوجماعية ، علىا لمستوى التكتيكى ، وكلها صهيونية .

يكون من المفيد لنا ، نحنالعرب، حين نتحدث عن الصهيونية او نستمع الى حديث عنها ، حين تواجهنا او نواجهها،ان نعرف ونحدد المستوى الصهيونى الذى يدور عليه الحديث او تجرى عليه المواجهة . قلتمفيدا ، واقول انه حيوى . اعنى ان هذه المعرفة بمستويات الصهيونية، والاستفادة بهامسالة حياة اوموت بالنسبة الينا نحن العرب . بحيث ا ن أى خلط او خطأ ، أى جهل اوتجاهل ، لمستويات الصهيونية قد يؤدى ـ فى صراعنا معه ـ الى هزيمتنا هزيمة لانعرفكيف وقعت . وافدح الهزائم واكثرها تدميرا هى التى لايعرف المهزوم كيف وقعت .

ترجع هذه الحيوية الى سببين متكاملين :

السبب الاول: ان مستوياتالصهيونية ، مثل مستويات اية حركة سياسية يحكم بعضها بعضا ويحدده .فالنظريةهىالمبدأ والمقياس الثابت. فهى تحكم الاستراتيجية وتحددها . بمعنى ان الاستراتيجية، مهما تعدلت خططها ، او حتى تغيرت ، لاتستطيع ان تفلت من اطار النظرية . وستبقىغايتها دائما تحقيق الهدف الذى حددته تلك النظرية . ثم ان المواقف الفكرية اوالحركية ، الجزئية أو المرحلية ، الفردية او الجماعية ، السلمية او العنيفة ، التىتقع على مستوى التكتيك تكون محكومة بالاستراتيجية طبقا لهذا يكون من الحيوى بالنسبةالينا ، حين نتحدث عن الصهيونية او حين نواجهها ، ان نميز بين تلك المستوياتالثلاثة ،ثم نتعرف اين يقع الحديث او المواجهة منها . ثم ان نكتشف ، بالرغم من كلتمويه ، حقيقة الموقف التكتيكى برده الى الخطة الاستراتيجية لنعرف على أى وجهيخدمها . ثم نراقب الاستراتيجية وننتبه الى ماقد يصيبها من تغيرات لابد لها من انتكون اكثر ملاءمة عند اصحابها ، لتحقيق الهدف . فاذا غم علينا الامر رددناه الىالنظرية .. اذ هى المصدر الاول لكل حركة والمقياس الاخير لكل موقف .

السببالثانى : ان مستويات الصهيونية ، مثل مستويات اية حركة سياسية اخرى ، تتراكموتتراكم متجهة .من الفكر المجرد الى الواقع العينى . من النظرية الى الاستراتيجيةالى التكتيك حيث تدور المعارك الفعلية متنوعة المضمون متنوعة القوى متنوعة الاسلحة . ولكن خط ، الانتصار او الهزيمة يتجه ـ بالعكس ـ من الواقع العينى الى الفكرالمجرد . يتم النصر او الهزيمة على المستوى التكتيكى ، وبتراكمه تهزم الاستراتيجيةاو تنتصر ، ولكن النصر النهائى، او الهزيمة ، لاتتم الا بهزيمة النظرية ذاتها ، أىحين لا تجد احدا يقتنع بها وينطلق منها الى استراتيجية جديدة ، او بانتصار النظريةذاتها حين يتمكن الطرف المنتصر تكتيكياواستراتيجيا من صياغة الواقع طبقا لنظريته . وبناء على هذا يكون من الاخطاء القاتلة لاى طرف ان يحسب النصر التكتيكى نصرااستراتيجيا او يحسب النصر الا ستراتيجى حسما نهائيا للنزاع . وبالعكس ان يعتبرالهزيمة التكتيكية هزيمة استراتيجية او يعتبر الهزيمة الا ستراتيجية حسما نهائياللصراع .

فى عام 1967ادرك جمال عبد الناصر مستوى الهزيمة بالرغم من جسامتها، وقدم مثالا رائعا للقائد الذى يعرف طبيعة المعارك التى يخوضها ، فبعد شهرين فقطمن الهزيمة الجسيمة رفع شعار " مااخذ بالقوة لايسترد الا بالقوة " ، وشعار " لامفاوضة ، لاصلح ، لا اعتراف " . وفى العام ذاته سئل وزير خارجية الصهاينة ، اباايبان ، عما اذ اكانت الصهيونية ستفعل لو نجح العرب فى تدمير اسرائيل فقال: كناسنبدأ من جديد لاقامة دولة اسرائيل . وكان كلاهما يعبران عن السمةالتكتيكية للنصرالصهيونى والهزيمة العربية عام 1967.

الصهيونية نظرية :

الصهيونيةنظرية فى القومية . تقول : ان اليهود امة . ولابد ان ننتبه الى هذا المفهومالصهيونى للامة العربية ، اولا: لان معرفته معرفة واضحة هى الضابط النهائى للمواقفالصحيحة من الصراع العربى الصهيونى . وثانيا : لان مشكلة الامة والقومية مشكلةقائمة فى الوطن العربى على المستويين الفكرى والحركى . أى اننا ـ على وجه ـ نستعملفى حديثنا عن الامة العربية ومستقبلها ذات الالفاظ التى يستعملها الصهاينة عن الامةاليهودية ومستقبلها . وقد يؤدى هذا الى ان تختلط فى اذهاننا المفاهيم فنتصور ان لناولهم نظرية واحدة فى الامة القومية .
اليهودية دين كما نعلم . واليهود هم ممنيؤمنون بذلك الدين ، ولما كان الايمان بالدين ، أى دين، لايتوقف على الجنس او اللوناو اللغة اوالانتماء الاجتماعى ، فهو انتماء مفتوح لكل من يؤمن ، فاننا نستطيع اننتبين بسهولة ان اليهود ، لمجرد انهم يهود، لايكونون امة . والواقع انه لاتوجد فىالتراث العالمى كله ، على كثرة مافيه من نظريات فى الامة والقو مية ، نظرية تقول اناليهود امة الا النظرية الصهيونية .فالامة فى الصهيونية لاتحتاج فى تكوينها لتاريخىالى وحدة الدم او الجنس او اللغة او الارض او الحياة الاقتصادية .. بل يكفى لتكوينالامة الانتماء الدينى ومايولده من قرابة روحية تميز بين اليهود وغيرهم من الامم .

وتختلف هذه النظرية اختلافا اساسيا عن مفهوم الامة والقومية فى الفكرالعربى الحديث . حيث الامة " مجتمع ذو حضارة متميزة من شعب معين مستقر على ارضمعينة خاصة ومشتركة تكون نتيجة تطور تاريخى مشترك ". ويدخل فى هذا التعريف كلماتعلمناه من مميزات الامة كاللغة او الثقافة او الدين فتلك عناصر التكوين الحضارىوهى تختلف من امة الى امة تبعا لظروف لتطور التاريخى الذى كونها . اما عن المصالحالاقتصادية المشتركة فهى متوافرة فى كل مجتمع حتى لو لم يكن امة . واما الحالةالنفسية المشتركة والولاء المشترك .. الخ . فتلك معبرات فى الافراد عن وعيهمالانتماء الى ا مة قائمة ، ولكن الوجود القومى ، الامة ، لايتوقف عليها على اى حالفان الفارق الاساسى بين النظرية الصهيونية والنظرية العربية فى الامة هو الاختصاصبالارض والتفاعل معها حضاريا .

الصهيونية استراتيجية :

للاستراتيجية عناصر ثلاثة : الاداة . الخطة . الهدف.

(1) اماالاداة الصهيونية ، فهى المنظمة الصهيونية ، وليس مؤسستها السياسية المسماة اسرائيل، كما قد يتبادر الى الذهن . الصهيونية منظمة هى التى جمعت الصهاينة وحشدت جهودهممن اجل هدفها . وهى التى بدات بالغزو السلمى قبل 1948 لارض فلسطين فى شكل الهجرةوشراء الاراضى ، وهى التى عبأت ودربت وسلحت قواها استعدا دا للغزو المسلح . وهىالتى غزت ثم اقامت دولة اسرئيل على قطعة محدودة من الارض العربية . وهى التى تقفوراء اسرئيل وتستخدمها كقاعدةانطلاق الى اسرئيل الكبرى التى تمثل الهدف النهائى .
اوينبغى ان ندرك ، ان القول الفصل فى مصير الصراع العربى الصهيونى ليس ما تقولهو تفعله او تقبله اسرئيل القائمة بل ماتقوله او تفعله او تقبله الصهيونية المنظمةعلى المستوى العا لمى . والواقع ان اسرئيل ليست الا المشروع المصغر للهدف الصهيونى . وهى لاتمثل من بين ادوات الغزو الصهيونى اخطرها واقواها تاثيرا فيجاورها ووراءهاواقوى منها اثرا تلك القوى العالمية التى عبأتها الصهيونية المنظمة من دول وجماعاتوافراد وافكار واموال وأعلام لتدعم قوة اسرائيل ثم تمد لها الارض العربية حتى تتقدمعليها باقل خسائر ممكنة ..وقد تجنح حكومة فىاسرائيل الى السلام وقد تقبل التخلى عنالتوسع ولكن هذ ا لن يكون عند المنظمة الصهيونية الا استسلاما او خيانة من حكامالدولة القاعدة ولن تلبث الصهيونية ان تغير من تشكيل الحكم فى دولتها الصغرىلتستانف مسيرتها الى دولتها الكبر ى.

(2) اما الخطة الاستراتيجية الصهيونيةفتتميز اساسا بانها عدوانية . ذلك ، لانها ، بحكم الفرق بين منشأ القوة وهدفها ،لابد ان تكون هجومبة . وقد تقف اسرائيل موقفا دفاعيا . وقد تتقهقرولكن هذا لن يكونالا موقفا تكتيكيا فى معركة تكتيكية فى نطاق استراتيجية هجومية عدوانية اصلا . وهومايعنى تماما انه بعد أى توقف او تقهقر لايملك الصهاينة ، واداتهم اسرائيل ، الا انيعودوا الى الهجوم الى ان يتحقق هدفهم الاستراتيجى او الى ان تهزم الصهيونية نهائيا . فهى اذن استراتيجية هجومية عدوانية ، هجومية منسوبة الى الصهاينة . عدوانيةمنسوبة الينا نحن العرب.

(3) اما الهدف ، فقد حددته النظرية على وجهلايستطيع أى صهيونى ان يحيد عنه او يتوقف دونه ويبقى صهيونيا . وتمكن صياغته علىالوجه الاتى: مادام اليهود ا مة فان من حقهم ان يفعلوا ماتفعل كل الامم ، وانيعاملوا كما تعامل الامم . ومن حق الامم ان تقرر مصيرها بنفسها مستقلة عن اية امماو شعوب اخرى . وهو مايعنى ان تكون لها دولتها القومية . والدولة لاتقوم الا من شعبمعين على ارض معينة . اما الشعب فهو كل اليهود ايا كانوا من اطراف الارض. عليهم انيجتمعوا على ارض دولتهم . اما عن الارض المعينة ، فهم يقراون فى كتاب يسمونهالتوراة ، وهو كتاب ظهر لاول مرة فى عهد الملك يوشا بعد وفاة موسى بن عمران بسبعةقرون كاملة ( سفر الملوك الثانى ـ اصحاح 22) . يقراون " لنسلك اعطى هذه الارض مننهر مصر الى النهر الكبير نهر الفرات " (سفر التكوين اصحاح 15 اية 18). الا انهاارضهم تاريخيا ؟ .. لا. يقراون وعد " يهوه" لاسرائيل بان سيقوده " الى مدن عظيمة لمتبنها ، وبيوت مملءة كل خير لم تملأها ، وابار محفورة لم تحفرها ، وكروم زيتون لمتغرسها "( سفر التثنية ـ اصحاح 6 ـ اية 11) . وماذا عن سكانها واصحابها ؟.. يقراون :" انى ادفع الى ايديكم سكان الارض فتطردهم من امامك" ( سفر الخروج اصحاح 23 اية 22) .

وهكذا نعرف مايعرفه الصهيونيون ، وهو ان هدفهم الاستراتيجى الاستيلاءعلى ارض عربية تمتد من نهر النيل الى نهر الفرات ،واخلاؤها من سكانها ليقيم فيهايهود العالم كله دولتهم القومية .

الصهيونية تكتيكا :

لايمكن حصرالمواقف والاساليب والمراحل التكتيكية التى تترجم الخطط الاستراتيجية . ذلك لانهعلى المستوى التكتيكى تدور المعارك الفعلية ويلتحم المتصارعون وتتعدد الاطرافالمشتركة بحيث لايستطيع أى طرف ان ينفرد باتخاذ موقف تكتيكى غير متاثر بالموقفالمضاد ، ولا ان يستعمل سلاحا بعيدا عن قياس مضائه على مضاء الاسلحة التى يواجهها . باختصار يمثل المستوى التكتيكى الميدان المرن للمناورة فيه تتجلى كفاءة المقاتلينوالقادة ، لا فى ميدان القتال فقط ، ولكن فى المقدرة على مواجهة المواقف الطارئة . والملاءمة بين حركاتهم وحركات القوى المضادة .. وتتوقف تلك المقدرة الى حد كبير علىالادراك الثابت للتناقض بين الخطط الاستراتيجية للمتصارعين حتى يستطيع كل مقاتل اومشترك فى الصراع ان يطور من اساليبه التكتيكية باقصى قدر من المرونة ، ولكن بحيثلاتنتقل اساليبه من مجال خدمة استراتيجيته الى مجال خدمة استراتيجية العدو . فيكونقد هزم نفسه .

ومع ذلك فلا باس من ان نقول ان حكماء صهيون قد اطلقوا حركةالصهيونية من اية قيود انسانية او خلقية من اول القتل الى الكذب وقالوا يوصون ابناءصهيون ": اضربوهم وهم يضحكون ، اسرقوهم وهم لاهون ، قيدوا ارجلهم وانتم راكعون ،ادخلوا بيوتهم واهدموها ،تسللوا الى قلوبهم ومزقوها ".

الهزيمة والاستسلام :

طبقا للمقاييس التى ذكرناها تحقق الصهيونية هدفها باحدى طريقتين هزيمةالعرب او استسلامهم

. اما بالاستيلاء على الارض العربية عنوة واخلائها منالبشر واقامة دولة اسرائيل عليها ، واما تخلى العرب عن الارض وتركتها لهم خاليةليقيموا عليها دولتهم . ولانقصد من قولنا خالية الايوجد فيها عربى على الاطلاق ولكننقصد ان لايقيم فيها الا العربى الذى تقبل اسرائيل اقامته . ذلك لانه لايخفى اندولة اسرائيل ستكون فى حاجة الى بشر من الدرجة الثالثة يعفون ابناءها من عبء العملالمرهق او العمل القذر وكمذيعين على موجات البث باللغة العربية ، وجواسيس ايضا.

المهم انه نتيجة الخلط المضطرب فى المفاهيم فى المرحلة الحالية اصبح مناللازم التفرقة بين الهزيمة والاستسلام .

ان الهزيمة هى التخلى عنوة عن هدفتكتيكى او استراتيجى . اما الاستسلام فهو قبول التخلى عن هدف تكتيكى او استراتيجىبدون صراع . وقد يبدو الفارق بينهما دقيقا على المستوى التكتيكى . اذ قد يتمالانسحاب بدون قتال من موقع تكتيكى نتيجة لتقدير القيادة لموازين القوى ، وتجنبخسائر محققة . هذا ليس استسلاما ولكنه مناورة ، واحدة من فنون الصراع التى يجيدهاالراسخون فى علم الصراع وفنونه . وقد تكون مناورة الانسحاب ، والتخلى عن الارض ، بلحرقها وتدميرها ، ابرع تكتيك يخدم الهدف الاستراتيجى . كما فعل الروس مرتين امامنابليون وهتلر . وفى صراعنا مع الصهاينة ، اعنى الصراع العسكرى ، هزمنا عام 1948وعام 1956 وعام 1967 وهزمناهم عام 1973، وكانت كلها معارك تكتيكية . فى عام 1948و1967 تخلى كثيرون من الشعب العربى فى فلسطين عن الارض وغادروها وكان ذلك يبدواستسلاما، ولكن حين تحول الشعب العربى الفلسطينى خارج الا رض المحتلة الى منظماتمقاتلة وبدا القتال اقتحاما اصبح من الممكن القول بان الهجرة تمثل انسحابا تكتيكياوليس استسلاما . وحين امر الرئيس عبد النااصر بسحب الجيش المصرى من سيناء عام 1956حتى لاتطوقه القوات الانجليزية والفرنسية الهابطة خلف منطقة القتال كان انسحاباتكتيكيا وليس استسلاما .. وهكذا .

ولكن الفارق بين الهزيمة والاستسلام يبدوواضحا حين تقع الهزيمة على المستوى التكتيكى فيتم التراجع على المستوى الاستراتيجى، او حين تقع الهزيمة على المستوى الاستراتيجى فيتم قبول وتبنى نظرية المعتدين . وهو هنا استسلام لانه ليس النتيجة اللازمة للهزيمة . فليس من شان الهزيمة فىالمعارك التكتيكية ، اعنى الجزئية او المرحلية ، ان تحسم المعركة على مستواهاالاستراتيجى ، وبالتالى يكون التراجع الاستراتيجى غير مبرر ، أى تراجعا بدون صراعأى استسلاما . كما ان الهزيمة حتى على المستوى الاستراتيجى لاتعنى ان الصراع قد حسموانما يحسم فقط حين يتبنى المنهزمون نظرية المنتصرين . واروع مثال على كل هذا معاركالعرب ضد الغزو الصليبى . انهزم العرب فى اكثر من موقعة تكتيكية ولكنهم لم يسلمواابدا بحق الصليبيين فى احتلال الارض العربية ، لم يقبلوا ابدا ، ولم يتبنوا النظريةالصليبية ، فلم يلبثوا ، ولو بعد حين ، ان حرروا الارض وهزموا اعداءهم . ومثالهالاخرحركات التحرر الوطنى فى العالم كله . بذرة نموها التى لم يصبها العفن ابدا ،هو رفض النظرية الا ستعمارية ، نظرية تحضير العالم اوروبيا ، نظرية تفوق الرجلالابيض ورسالته الحضارية الى البشر … ومن هذه البذرة ، وبعد قرون من العجز المادىعن المقاومة ، واتت الظروف فنبتت البذرة ثورات لم تلبث ان انتصرت .

أليسهذا واضحا ؟.

فما الذى يحدث الان فى العالم العربى ؟..

الاستسلامالوشيك :

هزمتنا الصهيونية عام 1948 واحتلت جزءا من فلسطين . وهزمتنا عام 1956 وخرجت من المعركة مستولية على مياهنا الاقليمية فى خليج العقبة . وهزمتنا عام 1967 واستولت على سيناء والضفة الغربية والمرتفعات السورية .وفى مقابل هذا كنا ندركان تلك هزائم تكتيكية ونعد العدة لاستئناف المعارك . تحول شباب اللاجئين الىمقاتلين واقتحموا حدود وطنهم . وتقدم العرب الى القائد الذى انهزم يعوضونه ماليا عندخل القناة ، ويتعاهدون معه على " الا مفاوضة ولاصلح ولااعتراف ". ومن مرحلةالاعتراف بالحطأ بدأت خطى التصحيح . وعبأت اكثر من دولة عربية كل قواها الماديةوالبشرية لاعادة انشاء الجيوش التى سحقتها الهزيمة ، واستؤنف القتال تحت اسم حربالاستنزاف بعد اقل من ستة اشهر من الهزيمة علاقاتها الدولية على اساس ان مااخذبالقوة لايسترد الا بالقوة . وحين وجد القادة لم يخذلهم الشعب وجاءت لحظة الاختبارالتاريخى حين واجه جنودنا جنود الصهاينة فى فرصة متكافئة وانهزم الصهاينة فى معركةتكتيكية ايضا .. ولكنها امدتنا باقوى اسلحة النصر النهائى : الثقة فى اننا نستطيعان ننتصر .

بكل منطق قومى او وطنى او علمى او حتى نفسى .. كان ذلك يعنىاولا : ان يدرك العرب ان نصر اكتوبر 1973 كان نصرا فى موقعة تكتيكية ، لم يحسمالصراع بين العرب والصهيونية على المستوى الاستراتيجى .ولكنه مهد لحسمه لصالح العرب . ثانيا : الايتركوا للعدو فرصة التقاط انفاسه وا سترداد قواه والتحول من الدفاعالى الهجوم . ثالثا : ان يحتفظ القادة بالثقة بالنصر التى قدمها اليهم الجنود بعدان اشتروها بدمائهم الغالية . رابعا : ان يكمل العرب ماينقصهم من عناصر القوةفيضيفوا الى خططهم التكتيكية الجزئية المرحلية خطة استراتيجية شاملة بعيدة الامد .. خامسا: ان يكتشف العرب من خلال عناصر النصر الذى تحقق فى اكتوبر 1973 اصولهالمبدئية ، ان يكتشفوا من خلال ماحقق عنصر التنسيق العربى من نصر مدى ماتتضمنهالوحدة من انتصار ، ومدى مسئولية التجزئة عن مرحلة الهزائم .

بكل منطق كانيجب ان نوالى انتصاراتنا العربية التكتيكية ، لتحقيق النصر على المستوى الاستراتيجى، لنصوغ الحياة على الارض العربية طبقا لنظريتنا القومية ، ونقنع الصهاينة بهاليبحث كل منهم عن ارضه التى جاء منها .

ضد كل هذا ،

ضد معطياتهالعينية ، لمادية والبشرية والفكرية ، حدث مالم يحدث فى تاريخ الشعوب كلها بقدرمااعرف من تاريخ الشعوب . وفى ذات للحظة التى انتصرنا فيها فى معركة تكتيكيةاستسلمنا اونحن على وشك الاستسلام ، لا اقول على المستوى الاستراتيجى ، بل اقول علىالمستوى المبدئى . كان امامنا خيارات عدة تقع جميعها على مستوى المعركة التىانتصرنا فيها . كان ممكنا ان نواصل المعارك . كان فى امكاننا ان نتوقف مرحليا . كانفى مقدورنا حتى ان نتخلى عن المكاسب التى حققناها ، وهو اقصى ، واقسى ، مايمكن انيختاره المقا تلون على ا لمستوى التكتيكى . وكان يمكن ان يكون لكل هذا مبررات ، منالظروف الدولية ، او من الظروف العربية ، او من الظروف المحلية ، سواء كانت ظروفاسياسية او اقتصادية او حتى ذاتية ، وسواء ‏كانت ظروفا صحيحة او غير صحيحة .. وكناستلف فى هذه المبررات ، ولكن خلافاتنا ماكان لها ان تتجاوزمستواها التكتيكى ، أى اناقصى ماكنا سنختلف فيه هو : " كيف نواصل الصراع حتى نهزم الصهيونية على جميعمستوياتها .

ولكن شيئا من هذا لم يحدث ..

الذى حدث اننا بطريقةغريبة على التاريخ ،, غريبة على الشعوب ، غريبة على تاريخ الشعب العربى بالذات ،انتقلنا ، نحن الذين انتقلنا . من نصر تكتيكى الى استسلام مبدئى ، موفرين على عدوناعناء الصراع على المستوى الاستراتيجى .

ذلك لاننا سلمنا ببساطة بان من حقاليهود ان يقرروا مصيرهم ، أى انهم امة . ,ان من حق هذه الامة ان تكون لها دولةقومية وان تقوم تلك الدولة القومية ، الصهيونية ، على جزء من الارض العربية ، وانيكون هذا الجزء بالذات مااشارت اليه التوراة التى يقراها الصهاينة .لم يحدث ابدا انارغمنا الصهاينة على تبنى نظريتهم هذه . لانه لم يحدث ابدا ان هزمونا على المستوىالاستراتيجى ، ولم يحدث ابدا ان حققوا من الانتصارات مايحسم الصراع بالنسبة اليهمعلى المستوى التكتيكى، وقد كان اخر لقاء بيننا هزيمة لهم .. لهذا قلنا ونقول : اننالم نهزم .. بل نستسلم او نوشك ان نستسلم …

السنا مشغولين بوجود الشعبالفلسطينى ودولته ، السنا فرحين بان اعترف عدونا ، او بعض اعداءنا بان هناك شعبافلسطينيا ، وان من حقه ان يكون له موطنا، وليس حتى وطنا؟ السنا نتحاور ونتشاورونجادل ونختلف حول صيغة وجود الدولة الفلسطينية ، هل تقوم مستقلة ام فى اتحادفيدرالى او كونفدرالى مع الاردن اوسورية . السنا نركض فى انحاء الارض جميعا ،فخورين بكرمنا وسماحتنا وسعة افقنا نعرض السلام مع الصهاينة وندفع ثمنه مقدما قبولالوجود الصهيونى على ارض فلسطين ؟ .. السنا نسعى الى حد المذلة ، علنا وخفية … ،ملتمسين من الصهاينة ان يقبلوا جوارنا مؤكدين صدق نوايانا فى قبول جوارهم ، علىالارض العربية .. اليس على الارض العربية فى جنوب لبنان ، جيش مقاتل " صهيونى ـعربى " موحد الاسلحة والامدادات والتخطيط وقد يكون موحد القيادة ؟…. ايها الشبابالا نسمى الان ، وطننا العربى ، منطقة الشرق الاوسط ؟..

فما الذى بقى ؟..

يقولون :" انها خاتمة جولة وستاتى بعدها جولات " .. غدا تسترد دولة الضفةوالقطاع مابقى من اسرائيل ؟..غدا نقوى فنستانف الصراع ؟ .. غدا .. ياتى جيل يلغىمافعلناه والتاريخ طويل؟ .

لايصدق من هذا القول الا القول الاخير . نعم ،غدا يأتى جيل عربى يلغى كل مافعلوه ، ولماذا غدا، انه قائم قادر لن يولد غدا ، بلسيضرب غدا وان غدا لناظره قريب ، ولكن لماذ ايطول تاريخ المعاناة ونحن قادرون علىاختصاره ..؟ السنا جيلا فاشلا؟.. افلا يكفيه فشله فيخون جيلا ناشئا.

اما عنالجولة التى ستاتى بعدها جولة ، ودولة الضفة والقطاع التى ستحرر باقى فلسطين ، فلااقول انه عناء . اقول انه احتيال . نصب . خديعة . اننا لم نحرر الضفة او القطاع اوحتى جزءا منها ونقيم عليه دولتنا .ولو تم شئ من هذا ولو فى القطا ع وحده ، ولو فىمدينة واحدة من مدن الضفة لكان نصرا عظيما ، ولكننا مشغولون بقبول عرض مشروط .. مشغولون بدراسة صفقة دولة فلسطين فى مقابل دولة صهيونية . مع الاعتراف المتبادلوالامن المتبادل .. ولن ينتهى الامر عند هذا الحد.. سيستانف الصهاينة مسيرتهمالعدوانية الى ان تتحقق لهم دولتهم بحدودها التى لاينكرونها.. فقط بلاسلوب الجديد .. اسلوب الاستسلام العربى …

وبعد ،

فلماذا استسلم العرب أويوشكونعلى الاستسلام ؟ … اعتقد ان الصهيونية وحلفاءها ، بعد ان انهزموا عسكريا فى جبهةالقتال فى اكتوبر 1973 ، فتحوا من جباهنا ثغرات ، وغزوا عقولنا . اختصروا الطريقالى النصر النهائى ، فبدلا من احتلال ارضنا جزءا جزءا بدأوا فى احتلال رؤوسنا فكرةفكرة . بدلا من الاستيلاء على الوطن يحاولون الاستيلاء على البشر ليكون الوطن لهمبعد ذلك بدون حاجة الى القهر ..

جردونا من نظريتنا العربية ودسوا فى رؤوسنانظريتهم الصهيونية .

رفعوا من فكرنا القومية العربية ووضعوا بدلا منهاالقومية اليهودية ، ولما انمحت من ذاكرتنا دولة الوحدة قامت بدلا منها دولة اسرائيل. وكان لهم منذ البداية حلفاء جاهزون . اولئك هم الاقليميون الذين انكروا امتهم ،فتنكروا لقوميتهم ، فمنحوا ولاءهم للتجزئة فيما بينهم . والتجزئة لاتمس بل تتدعماذا مااعطيت الصهيونية جزءا مغتصبا من الوطن العربى مقابل ان تسكت عن اغتصابالاقليمين باقى اجزائه..

ولما انكر الاقليميون امتهم ، وفقدوا قوميتهم ،تجردوا من نظريتهم ، فلم يستطيعوا ، ومااستطاع الاقليميون قط ، ولن يستطيعوا قط ،ان تكون لهم استراتيجية موحدة فى مواجهة الصهيونية . ماكان ولن يكون للاقليمين اداةنضال عربية واحدة . ماكان ولن يكون للاقليمين خطة مواجهة واحدة . لم يلتقالاقليميون ولن يلتقوا قط على تحرير فلسطين …. وليس هذا قولا جديدا .

فىشباط (فبراير) 1968 كتبت ونشرت تحت عنوان " وحدة القوى العربية التقدمية " حديثاطويلا عن المستقبل قلت فيه مخاطبا المقاومة الفلسطينية وكانت فى ذلك الوقت تحملمابقى من امل لهذه الامة قلت : "احذروا غدا اوبعد غد ستخذلكم الاقليمية من حولكموالاقليمية من داخلكم" . وفى نيسان ( ابريل) 1970 فى عمان فى ندوة مشتركة بقاعةنقابة المحامين اشترك فيها ممثلون عن اغلب فصائل المقاومة قلت " ان اسرائيل قامتونمت وتوسعت فى ظل حماية الدول الاقليمية " …

دكتور عصمت سيف الدولة

محاضرة القيت فى جامعة الكويت فى 6 ابريل 1977

--

0 comments:

إرسال تعليق

 
تصميم وتنفيذ الادارة التنفيذية