الثلاثاء، 26 يونيو 2012

هكذا كان يُسرق المال العام في الحقبة السورية

لماذا تبدو الأوضاع الاقتصادية، سيما المشاريع ذات المنفعة العامة منها، في وضع أسوأ بكثير مما كانت عليه في زمن الوصاية السورية، يوم كان الضابط السوري يملك كلمة الفصل في أي مشروع يجري تمريره في الدولة؟ هل يعني ذلك ان السوري كان أشد حرصاً على مصالح الدولة ومصالح الناس؟!

لاشك في أن السوري كان يمثل وجها من وجوه الفساد الفاضح في البلد. لكن هذا الوضع كان يخفي عورات السياسيين المحليين القادرين على الاختباء دائما وراء المحتل، لتبرير الرشاوى والسرقات والفشل والعجز. لكن المشاريع الحيوية كانت تمر بالسرعة المقبولة، ولو انها كانت مصحوبة دائما بنسبة مئوية من الرشاوى والسرقة.

الحكومات التي عملت تحت سلطة الاحتلال السوري، نجحت في تنفيذ مشاريع ذات منفعة عامة.

وكان أحد رؤساء الحكومات، يقول في مجالسه الخاصة، انه يعرف تماما أن كل مشروع في الدولة يكلف اكثر من كلفته الحقيقية، لكن ذلك أفضل من البقاء من دون تنفيذ المشاريع المطلوبة.

وكان يشبّه ما يجري بنوع من الخوّة يفرضها المحتل على كل مشروع من اجل تمريره. وكان يقول في الحلقة الضيقة المحيطة به، علينا ان نعتبر اننا ندفع ضريبة للسوري، ولا خيار امامنا سوى العمل، اذ ستكون الاضرار التي تلحق بالبلد اكبر بكثير، اذا حاولنا التهرّب من دفع هذه الخوة من خلال وقف تنفيذ المشاريع.

هذا الوضع الذي كان سائدا، لا يعني في اي حال من الأحوال، ان الطبقة السياسية "الحاكمة" في تلك الحقبة لم تكن تسرق او تحصل على الرشاوى، بل من المؤكد ان بعضها كان يحصل على حصته. لكن السوري كان من يحدّد هذه الحصة، وهوية الشخص الذي ينبغي ان يستفيد منها.

في المقابل، لم يكن اي سياسي في السلطة، يجرؤ على معارضة الصفقات، والدخول على الخط للحصول بدوره على حصة. الضابط السوري كان ضابطا للكل، يحدّد حجم السرقة، ويحدّد النسب المئوية في توزيعها، ويحدّد كذلك الاشخاص الذين يحق لهم الافادة من كل مشروع من المشاريع.

هذا الوضع تغير، بعد رحيل "الضابط". استمرت السرقة، وتحولّت الى فوضى، وصار من يريد ان يسرق أكثر وقاحة في غياب البعبع، ويطالب بحصته علناً، ويتجرأ على محاولة تعطيل المشاريع لأن غيره يسرق وهو لا تصله حصة من هذه السرقة.

في هذا الوضع المستجد، صارت المشاريع اكثر كلفة، ونسب السرقة فيها تتجاوز بأضعاف نسب السرقة في الحقبة السورية. اذ ارتفع عدد المطالبين بالحصص، ولم يعد يوجد من يضع الضوابط. ولا توجد حاجة الى تقديم أدلة في هذا الوضع الذي يهدّد الاقتصاد الوطني، وسيوصل البلد الى الافلاس.

مشروع تأهيل الكهرباء نموذج واضح يمكن الاستناد اليه لتأكيد الحالة التي يتخبط بها البلد. هذا المشروع الذي قال فيه رئيس الحكومة نجيب ميقاتي ما لم يقله ابو النواس في الخمرة، يؤكد ان سرقة المال العام وتقاسّم السرقات صار يحول دون تنفيذ المشاريع الحيوية للمواطن والبلد. لقد سمعنا ميقاتي يتهم الوزراء بالرشاوى (السرقة) في ملف بواخر الكهرباء. ولا أحد يستطيع ان يصدق ان رئيس الحكومة يمكن ان يرتكب جريمة قدح وذم يعاقب عليها القانون، لو لم يكن واثقا مما يقول. وقد يكون ميقاتي قال غيض من فيض من المعلومات التي يمتلكها حول السرقات المحيطة بالصفقة.

في المقابل، ارتفعت أصوات تطالب بالمزيد من الشفافية في مشروع الكهرباء، لكن لم يتضح بعد، اذا كانت تلك الاصوات نابعة من الحرص على المال العام، ام للاحتجاج على حصر السرقات في أطراف محدّدة، وعدم توزيع المنافع على الجميع. خصوصا ان الحصص في مشروع من هذا الحجم يكلف مليارات الدولارات، كبيرة جدا.

في النتيجة، المشاريع لا تمر، بسبب الخلافات على السرقات، وأحيانا بسبب الكيدية السياسية، واحيانا بسبب الغيرة لأن من لا تُتاح له فرصة السرقة، قد يتحرك، بدافع الحسد، وليس بدافع الضمير، من اجل تعطيل المشروع، على طريقة عليّ وعلى أعدائي.

هذا الواقع، قد ينطبق اليوم على مشروع السلفة التي أقرتها الحكومة، لقوننة الانفاق حتى نهاية العام 2012. اذ أنها أقرّت لنفسها زيادة في الانفاق عن العام الماضي، تبلغ حوالي 4 آلاف مليار ليرة.

هذه الزيادة سيتمّ توزيع حصص منها على الوزراء لإنفاقها في الحملات الانتخابية المتوقعة في الصيف المقبل. ولن يخضع هذا الانفاق الى رقابة المجلس النيابي في غياب الموازنة.

وسيكون الهدر متاحا ببحبوحة. وسيرتفع العجز الى مستويات قياسية في نهاية العام، وسيدفع المواطن فاتورة هذا الوضع من معيشته، لأن التضخّم سيبلغ مستويات لم يبلغها سابقا.

ما المطلوب اذن؟

الجواب الذي يُفترض تقديمه هو وقف السرقة والهدر. لكن بما أن تحقيق هذا الامر غير مُتاح حتى الان، قد يكون من المجدي البحث عن "ضابط" محلي ينظم السرقة و"يقوننها" لكي تسير المشاريع، في مقابل دفع اللبناني خوّة الى الطبقة الحاكمة، الى أن يقرّر المواطن نفسه تغيير هذا الوضع في صناديق الاقتراع.

''أنطوان فرح''

0 comments:

إرسال تعليق

 
تصميم وتنفيذ الادارة التنفيذية