الجمعة، 19 أكتوبر 2012

الرواية الكاملة لقضية المخطوفين اللبنانيين في سوريا

عادت قضية المخطوفين اللبنانيين داخل سوريا إلى الواجهة مجدداً، بعد المعطيات الأولية عن مبادرة لإطلاق العدد الأكبر منهم قبل عيد الأضحى المبارك. وعلى رغم وفرة المعلومات، فإنّ الغموض سيطر على القضية منذ بداية عملية الخطف، وتحديداً لجهة خلفيات الجهة التي نفّذت العملية وأهدافها وهويتها، وفيما بعد لجهة مطالب الخاطفين ومسار المفاوضات المتعرّجة للانتهاء من هذا الملف الذي كاد أن يهدد السلم الأهلي الهشّ في لبنان.

هل يحمل عيد الأضحى الخبر السعيد؟

في آخر المستجدات، ما كشفه الشيخ بلال دقماق إثر عودته من اسطنبول لـ"الجمهورية"، لجهة تأكيده أنّ "قضية المخطوفين أصبحت في المراحل الأخيرة، إذ أسفرت المفاوضات عن تذليل كل العقبات، وعن اتفاق مبدئي لإطلاق جميع المخطوفين اللبنانيين باستثناء صاحب حملة بدر الكبرى الحاج عباس شعيب، وذلك بعد 20 الجاري، على أن تحصل العملية على دُفعتَين".

وأوضحت المعلومات أنّ "تمسّك الخاطفين بعباس شعيب يعود لكونه منتسباً إلى "حزب الله"، خصوصاً بعد العثور في حوزته على صوَر له مرتدياً اللباس العسكري لـ"حزب الله"، ممسكاً قاذفة "بـ7"، ما يؤكد انتسابه إلى الجهاز العسكري للحزب، وهذه النقطة حساسة للغاية عند الثوّار السوريين".

مع هذه المؤشرات التي تؤكد قرب إقفال هذه الملف، حاولت "الجمهورية" إماطة اللثام عن الحقيقة الكاملة لكشف طلاسم هذه القضية وألغازها بكلّ ما للكلمة من معنى، عن طريق مواكبة المفاوضات الجارية بين بيروت والرياض واسطنبول والدوحة، ومن الداخل السوري ومتفرعاته الإقليمية والدولية، عبر الوسطاء المباشرين الذين واكبوا العملية منذ 22 أيار المنصرم وحتى الآن.

وفي هذا الإطار، كشف وسيط أساسي في المفاوضات بداية، أنّ "اتفاقاً ناجزاً طُرح أخيراً من أجل إطلاق جميع المخطوفين خلال فترة قريبة، وتم تجاوز شروط الخاطفين التي كانت تتلخّص بثلاث نقاط، أبرزها اعتذار الأمين العام لـ"حزب الله" السيد حسن نصرالله من الشعب السوري على مشاركة أعضاء من الحزب بقتال الشعب السوري إلى جانب النظام، فضلاً عن عقدة مالية إذ إنّ الأرقام كانت تتراوح بين المليون وخمسة ملايين دولار".

وأكد هذا الوسيط لـ"الجمهورية" أنّ "الاتفاق المالي ينصّ الآن على الحصول على مساهمة عينيّة لصالح الشعب السوري بقيمة 2 مليون دولار تتضمن حليباً للأطفال ومواد غذائية فقط من دون سواها. وخلال فترة ستة أشهر، ستمرّ المساهمات على شكل شحنات عبر الحدود التركية، وقد وافقت شخصية لبنانية بارزة من دون تردّد على تلبية هذا الأمر في مقابل حرية المخطوفين".

في الوقت نفسه، لفت الوسيط الى "محاولات عرقلة وشغب يقودها فريق لبناني داخل الحكومة اللبنانية، كونه يستفيد من بقاء المخطوفين داخل سوريا".

ويذكّر بحادثة ملموسة تتعلق بمحاولة إشاعة جوّ من البلبلة بين المعارضة السورية بعد تسريب معلومات كاذبة تقول إن مرجعاً حكومياً لبنانياً دفع خمسة ملايين دولار لشخص على صِلة بالقضية، وذلك بهدف التشويش وعرقلة الجهود والعودة إلى نقطة الصفر بعد تذليل كل العقبات من الطرف السوري".

المجموعة الخاطفة... و«أبو ابراهيم»

فور شيوع خبر اختطاف أحد عشر لبنانياً في 22 أيار المنصرم، بعدما اعترضهم باص كان يقلّهم أثناء عودتهم من إيران إلى بيروت من طريق حلب، أعلنت "جماعة ثوار سوريا في حلب" مسؤوليتها عن العملية، وتحديدا في منطقة أعزاز الواقعة في ريف حلب واللصيقة إلى حد ما بالحدود التركية، لتبدأ فصول حكاية المخطوفين اللبنانيين، حيث تابعها وعمل على خط الوساطة أكثر من طرف قريب من الجهة الخاطفة.

العملية هدفت حينها إلى تسليط الرأي العام الدولي على جرائم النظام ومأساة الشعب السوري، وهي عملياً فتحت الطريق جدياً أمام المعارضة السورية لإدخال حلب، العاصمة الاقتصادية لسوريا، مربّع عمل الثورة السورية بعدما كان النظام يتباهى بأن مدينتَي دمشق وحلب في مأمن عن نشاط الثوار.

المجموعة الخاطفة كانت مؤلفة من 17 رجلاً وفق المعلومات الخاصة بـ"الجمهورية"، نفّذوا مهمتهم من دون صعوبات تذكر، حيث كان هاجسهم عدم التعرّض للنساء مطلقاً والتعامل مع المخطوفين باحترام شديد؛ لكنّ شيئاً ما حصل، فاستقرّ بهم الأمر في قبضة "أبو ابراهيم" الذي سيطر بعد ذلك على معبر باب السلامة عند الحدود مع تركيا، محوّلاً مدينة أعزاز مكاناً للضيافة العامة المرتبطة بالمخطوفين.

وفق المعلومات المستقاة من غير جهة، فإنّ "أبو إبراهيم" ليس سوى شخص بسيط وأمّي لا يجيد الكتابة والقراءة، كان يعمل على خط التهريب بين سوريا وتركيا، وكان يستفيد سابقاً من تسهيلات أجهزة الأمن السورية، أبهَرته أضواء الشهرة مع وجود المخطوفين لديه، فتحوّل نجماً ساطعاً عبر وسائل الإعلام. يستضيف "أبو إبراهيم" الصحافيين ويطلب الفنانين إلى مضافته في أعزاز، ليُبرهن فعاليته أمام المعارضة.

ويقول أحد الوسطاء إنّ "أبو إبراهيم" أدخل الأطراف المتابعة في دوّامة من التأرجح والتردد؛ ما هدر الكثير من الفرص وعزّز الانطباع بفقدان الثقة بوعوده ومواعيده. ويكشف الوسيط أنّ "الغرور دفعه في مراحل معينة إلى المطالبة بسعد الحريري شخصياً مفاوضاً بديلاً عن النائب عقاب صقر، وهو أراد بإعلانه أنّ ملف المخطوفين أقفل بالشمع الأحمر، استدراج الجانب التركي إلى تلبية طلباته المتعلقة بتسهيلات معينة يحاول الحصول عليها على الحدود التركية؛ وهذا ما يوضح عمليا حال التأرجح التي رافقت القضية منذ بدايتها حتى اقتراب خواتيمها".

بعدما اتضحت الصورة إثر عملية الخطف وقبل الشروع في مفاوضة الجهة الخاطفة التي تفرّعت لتصبح جهات متعددة مع الوقت، وقبيل الدخول في دوامة "أبو إبراهيم"، انصبّ جهد الجانب اللبناني على الحصول على ضمانات من أطراف إقليمية عدة، معنيّة بالأزمة السورية، تتعلق بالحفاظ على حياة المخطوفين؛ فتوجّه وفد أمني من قيادة "حزب الله" إلى اسطنبول، العاصمة المعنية والقادرة على إعطاء ضمانات من هذا النوع؛ وقد أكّد الجانب التركي للوفد، بعد سَيل من الاتصالات، أن لا خطر على حياة المخطوفين مهما حصل.

وفي السياق نفسه أوفدت إيران، وبحكم العلاقة المميزة مع تركيا، شخصية رفيعة المستوى للهدف نفسه، وحصلت على الجواب التركي نفسه: "لا خطر على حياة المخطوفين... عليكم النجاح في إطلاقهم عن طريق المفاوضات ونحن جاهزون للمساعدة". لتمارس الحكومة اللبنانية بعدها سياستها المفضلة، فنأت بنفسها عن مواطنيها وكان في جعبة رئيس حزب "الأحرار السوري" الشيخ إبراهيم الزعبي الكثير ليقوله في هذا المجال، وهو كشف بعضه في سياق حديثه مع "الجمهورية".

«أبو محمد»

بعد هذه المرحلة، ظهر "أبو محمد" اللغز الكبير أو الجانب المخفي من المفاوضات والمحور الأساسي في القضية، لكونه على معرفة سابقة بـ"أبو إبراهيم" من جهة، وعلاقته الوطيدة بالزعبي المقيم في السعودية، وعلى تنسيق دائم مع الشيخ بلال دقماق في لبنان من الجهة الأخرى، وقبل ذلك لوضعيته القوية ديبلوماسياً على مستوى الاتحاد الأوروبي.

وضع "أبو محمد" يده على الملف، وأجمعت الأطراف كافة التي شاركت في المفاوضات بأنه "هو القناة الأساسية التي مرّت من خلالها كل الرسائل، بما فيها المطالب والردود عليها من الخاطفين وإليهم، كما المخطوفين، بما فيها الظهور الإعلامي في المرحلة الأولى والتواصل المباشر بين المخطوفين وأهاليهم ووسائل الإعلام".

على رغم هذا الدور الكبير، عمد "أبو محمد" إلى العمل بالخفاء، وراجت حول شخصه الكثير من الأقاويل، وهو رفض الظهور الإعلامي مراراً، بل ابتعد كثيراً واختفى حتى راجَت حوله أسطورة، ونفى البعض وجوده أصلاً كما دوره، إلا انه تجاوب أخيراً مع "الجمهورية" شرط عدم كشف هويته أو نشر أي صورة له لأسباب تتعلق بأمنه الشخصي. فمن هو هذا الشخص المجهول؟

انتقل "أبو محمد" من بروكسل إلى إسطنبول منذ بداية انطلاق الثورة السورية، لمتابعة تطوراتها الميدانية. رجلٌ خمسيني تغلب على لهجته اللكنة الحلبية (يردّد لقب الحجي كثيراً تحبّباً لمحدثه). عرّف عن نفسه أمام "الجمهورية" بأنه ديبلوماسي أوروبي من اصل سوري يسعى إلى دعم الحرية والكرامة في سوريا والحفاظ على مقوّمات الدولة في سوريا؛ الرجل يبدو دوره أكبر من متابعة قضية المخطوفين، ويتعدى ذلك الى ملفات أخرى بالمعارضة السورية، وتحديدا علاقاتها مع الخارج نظراً إلى معرفته أدق التفاصيل في مسار الأحداث السورية ومروحة علاقاته الدولية.

لا يفضل "أبو محمد" صفة الوسيط، بل يرغب بالتعريف عن نفسه بكونه "صاحب مبادرة". في البداية رفض الغوص في تفاصيل ما جرى في الماضي والأخذ والرد حول مسؤولية فشل المفاوضات، على رغم ردة فعله الغاضبة نسبياً عند سؤاله عن الوعود المتكررة بإنهاء الملف وعودة المخطوفين إلى ذويهم.

وعن الليلة الشهيرة التي ذهبت الدولة اللبنانية بأركانها الى مطار بيروت لاستقبال العائدين مع الأهالي فخاب أملهم، أوضح "أبو محمد" أنه سارع إلى الاتصال بجميع المعنيين، وأكد لهم أن المخطوفين لن يطلقوا كما كان يُشاع في لبنان، معتبراً أنّ المبالغة الإعلامية لا تفيد، بل إن الأمور كانت تحتاج الى تأنٍّ. وعَزا "أبو محمد" عدم إطلاقهم في تلك الليلة الشهيرة إلى "سوء التنسيق المتعلق بشق لوجستي داخل الأراضي السورية بين إطلاق سراح الرهائن من داخل الأراضي السورية وتأمين سلامتهم، ومن ثم تسليمهم إلى الجانب التركي".

وإذ اكتفى بقدر قليل من المعلومات حول أسباب هذا الإرباك، أكد أنّ "عملية إطلاق المخطوفين كادت أن تتم في تلك الليلة، ولكن استعجال طرف لبناني وحساسية الوضع السوري الداخلي عقّد الأمور".

ونفى "أبو محمد" وجود "معوقات أمامنا لإطلاق جميع المخطوفين دفعة واحدة، وقبل عيد الأضحى المبارك تحديداً. وعليه، ننتظر بعض الحوافز من أطراف لبنانية عدة متعلقة بمسار الأزمة السورية، ونجحنا في إبرام اتفاق أولي بين الجهة الخاطفة والجانب اللبناني".

أضاف: "من خلال التواصل المستمر مع وزير الداخلية مروان شربل، يمكن القول إن الأمور تسلك مساراً إيجابياً، وأعمل شخصياً على عدم حصول أيّ مشاغبات أو محاولات تخريبية كما حصل سابقاً، ولعلني لا اكشف سراً عندما أقول إنّ بعض الأطراف اللبنانية ليس لها مصلحة في إتمام العملية، وهي تستفيد من استمرار عملية الخطف، ولكن حصلنا على إيجابيات قد تُفضي إلى نتائج مرضية للجميع".

هيئة العلماء المسلمين

ليس سراً أن المفاوضات تشعّبت كثيراً بمختلف مراحلها نتيجة التداخلات الإقليمية في الأزمة السورية كما حدّة التناقضات السياسية في لبنان؛ فتكررت المحاولات حيناً، وسحبت المبادرات أحياناً، كما انعدم التنسيق وتسابق البعض لتسجيل النقاط أغلب الأحيان؛ هذه الأجواء عقّدت القضية مرارا. فعلى سبيل المثال، دخلت هيئة العلماء المسلمين في لبنان على خط المفاوضات، بعدما ناشد أهل أحد المخطوفين الشيخ سالم الرافعي التدخل فتوسّط مع الخاطفين عبر جبهة "النصرة السورية" والشيخ خالد العقلة تحديدا وتكللت الوساطة بالنجاح.

بعد ذلك تم تأليف لجنة من أطراف عدة، بما فيها قوى أساسية في الحكومة اللبنانية، كان هدفها توحيد الجهود وتصويبها باتجاه هدف واحد، وهو إطلاق المخطوفين وتغليب العوامل الإنسانية على ما عداها.

ويوضح الوسطاء أنه "كان من المفترض إطلاق ثلاثة مخطوفين بعد النجاح في المرحلة الأولى، ولكنهم فوجئوا بالنتيجة وهي إطلاق مخطوف واحد من دون سواه، إضافة إلى تعقيدات طرأت على إطلاق التسعة، بل الى شروط جديدة لم تكن ضمن المطالب الأولية".

مُنيت المحاولة بالفشل لأسباب يرفض الوسطاء التحدث عنها الآن، فانفرط عقد اللجنة وعادت الأمور إلى نقطة الصفر؛ على أنّ تطورات جديدة طرأت وساهمت في تحريك الملف مجدداً، فغادر دقماق، الذي تربطه بالمدير العام لقوى الأمن الداخلي اللواء أشرف ريفي علاقة ثقة وطيدة، إلى الدوحة، ومنها انتقل الى إسطنبول، فأنطاكيا، قبل أن يعود إلى بيروت.

وتقول مصادر خاصة بالـ"الجمهورية" إن "شخصية بارزة من طرابلس تربطها بالدولة التركية علاقة وطيدة تحركت على خط أزمة المخطوفين راغبة بإنهاء هذا الملف، وهي اصطحبت دقماق وعقدت اجتماعاً منذ نحو ثلاثة أسابيع ضمّ السفير التركي في بيروت؛ فضلاً عن حركة اتصالات ووساطات طاولت عدة أطراف أمّنت الأرضية الصالحة للإيجابيات المستجدة، واشترطت السرّية والكتمان لإنجاح المهمة.

الزعبي

وبالانتقال الى الرياض حيث يقيم الزعبي، الذي أدى دوراً بارزاً في القضية انطلاقاً من نجاحه السابق في إطلاق الرهائن الإيرانيين عند "الجيش السوري الحر" في مدينة حمص، فإنّ الشيخ الهادئ والمتأني جداً في الكلام، شرح لـ"الجمهورية" كيف دخل على خط الوساطة بعدما اتصل به "أبو محمد" لطمأنته عن المخطوفين، وأن الامور جيدة ولا خوف على حياتهم.

وأشار إلى "اتهام باطل طاول حزب "أحرار سوريا" بالتورّط في الخطف قامت به وسيلة إعلامية لبنانية لمجرد أن الحزب له باع طويل في التواصل مع مكوّنات الثورة السورية"، موضحاً أن "دوره في تسهيل عملية إطلاق المخطوفين أتى بعد طلب الوساطة من "أبو محمد".

ولفت الزعبي إلى عدم جدية تعاطي الحكومة اللبنانية، قائلاً: "اتصل بي أحد المسؤولين اللبنانيين وقال لي بالحرف الواحد بعدما طلبت منه التكليف الرسمي من أجل المفاوضة مع ثوّار سوريا: "نحن يا شيخ غير قادرين أن ندخل في هذا الملف، فكيف بتحِطّ إيدَك فيه؟".

أضاف الزعبي: "بعد ذلك عرضنا خارطة طريق كما سمّاها أحد المسؤولين اللبنانيين، لكن شيئاً لم يحدث، بل دأبت الحكومة اللبنانية حتى هذه اللحظة على التعامل مع هذه القضية على أساس الحل (من تحت الطاولة)، في الوقت الذي يخرج فيه مسؤولون لبنانيون بمؤتمرات صحافية يشيدون فيها بالجهود الديبلوماسية اللبنانية والتركية، ودولة كذا وسيادة كذا وإلى آخره!"

صحيفة الجمهورية

0 comments:

إرسال تعليق

 
تصميم وتنفيذ الادارة التنفيذية