الاثنين، 23 مارس 2009

الحملة على جمال عبد الناصر ماذا وراءها؟....و من وراءها؟

محمد حسنين هيكل

الحديث الأول
الحملة على جمال عبد الناصر: ماذا وراءها؟....و من وراءها؟

منذ عدت إلى الكتابة المنتظمة - مرة كل شهر - خارج مصر، حاولت قدر ما أستطيع أن أتجنب التعرض للسياسات والمواقف المصرية. ولم أقترب من هذه السياسات والمواقف إلا عند الضرورة القصوى، وفى حرص شديد.. يزن كل كلمة ويدقق فى كل إشارة بما فى ذلك النقط وعلامات التعجب والاستفهام!

والسبب - وهناك غيره أسباب أخرى - أن الكتابة عن مصر خارج مصر وبقلم مصرى لا تزال مسألة حساسة يمكن تأويلها بادعاء الإساءة إلى الوطن خارج حدوده. ومع أن هذا الادعاء باطل لأنه ينكمش بالحدود الحقيقية للوطن العربى الواحد إلى الحدود الضيقة لدولة واحدة من دوله..

إلا أن هذا الادعاء ما زال قابلاً للاستغلال، لأن النزعات الإقليمية مازالت مؤثرة من ناحية، ومن ناحية أخرى لأننا فى داخل الوطن العربى لم نتعود بعد أسلوب الحوار... حوارنا حملات كراهية وحروب بالكلمات.

وليس هناك ضمان لأى صاحب رأى يبديه - بكل الموضوعية - أن يجد رأيه فى النهاية ذخيرة لمدافع لم يصنع لها فى حملات الكراهية وحروب الكلمات!

ثم إننى - ومنذ البداية - حاولت قدر ما أستطيع أن أتجنب الكتابة عن جمال عبد الناصر وحياته الحافلة وتجربته الكبيرة، ولم أقترب من الحديث عنه إلا عند الضرورة القصوى.

فعلت ذلك مرة فى أعقاب رحيله مباشرة، ونشرت مقالاً فى ذكرى الأربعين على رحيله بعنوان "عبد الناصر ليس أسطورة" أبديت فيه خشيتى من استغلال المستغلين - لأغراضهم - لقصة البطل فيه والرمز، وعبرت عن مخاوفى من تحويل تراثه إلى كهنوت غيبى جامد، بينما هو فى الحقيقة تجربة إنسانية زاخرة قابلة للحياة والنمو والتطور.

ثم فعلت ذلك أخيراً - وقبل عدة شهور - فى ذكرى مرور 23 سنة على ثورة 23 يوليو، وكانت الحملات ضده فى مصر قد تصاعدت، وأردت فقط أن أنبه إلى مقاصدها وإلى مصادرها.

ولعلى لم أتجاوز كثيراً حين نسبتها إلى مخططات قوى السيطرة العالمية بشكلٍ عام، وإلى وكالة المخابرات المركزية الأمريكية بشكلٍ خاص، ولم يكن ذلك تخميناً أو رجماً بالغيب، وإنما كان استناداً إلى حقائق معروفة أكدتها ملفات هذه الوكالة التى كانت مفتوحة لمن يقرأ ويفهم ويستوعب خلال السنتين الأخيرتين.

وكان ذلك بفضل لجنة التحقيق الخاصة التى أشرف عليها السناتور "تشرش" عضو مجلس الشيوخ الأمريكى وقد شكلت لبحث تجاوزات وجرائم هذه الوكالة التى كان الزعيم الهندى جواهر لال نهرو يشير إليها دائما بقوله:

"إنها القوة الشريرة الملعونة فى زماننا المعاصر".

ولم تكن الملفات قد فتحت بعد، ولم يكن قد ثبت يقيناً أن هذه الوكالة كانت حرباً لا هوادة فيها ضد زعماء الثورة الوطنية المعادية للاستعمار وقيادات التقدم فى العالم الثالث عموماً: بعضهم حاولت اغتياله مادياً وبعضهم حاولت اغتياله معنوياً، ونجحت فى مرات ولم تنجح فى مرات أخرى:

- حاولت هذه الوكالة ونجحت فى الاغتيال المادى - بالقتل - بالنسبة "للليندى" فى "شيلى" و"لومومبا" فى "الكونجو" - وحاولت هذه الوكالة ولم تنجح فى الاغتيال المادى - بالقتل - بالنسبة "لكاسترو" فى "كوبا" و"مكاريوس" فى "قبرص".

- وحاولت هذه الوكالة ونجحت فى الاغتيال المعنوى - بالتشويه - بالنسبة لـ "سوكارنو" فى "إندونيسيا" و"نكروما" فى "غانا" - وحاولت هذه الوكالة ولم تنجح فى الاغتيال المعنوى - بالتشويه - بالنسبة لـ "شوين لاى" فى "الصين" و"أنديرا غاندى" فى "الهند".

قلت ذلك فى يوليو الماضى - فى مناسبة مرور 23 سنة على 23 يوليو 1952 - وأضفت إليه أن ما نشهده "الآن" هو محاولة فى الاغتيال المعنوى لجمال عبد الناصر، بعد محاولات متكررة - لم تنجح - فى اغتياله مادياً بالقتل منذ ظهوره وبروزه على مسرح السياسة العربية والعالمية كواحد من أكبر زعماء حركة الثورة الوطنية.

قلت ذلك وقتها واكتفيت!

وكثيراً ما سئلت، حتى من قبل أن تبدأ الحديث الأول.. الحملة على جمال عبد الناصر وتتصاعد: لماذا لا أكتب قصته وقد كنت من أقرب الناس فكراً إليه؟

وكان ردى دائماً:

- مازال الوقت مبكراً بعد، ومازالت رؤيتى مشوبة بالعاطفة.. وأريد أن أنتظر سنوات لكى أستطيع أن أقدم شهادة متكاملة للتاريخ".

وعندما بدأت الحملة وتصاعدت ضد جمال عبد الناصر كان السؤال الملح هو:

- إذا لم تكتب الآن فمتى تكتب؟ وإلى متى وألسنة السوء وحدها مطلقة العنان؟

وكان ردى دائماً:

- إذا أردت أن أكتب فلا ينبغى أن يكون ما أكتبه فى مجال الدفاع عن جمال عبد الناصر، فهو لا يحتاج منى - أو من غيرى - إلى دفاع عنه، ثم إننى أريد، إذا كتبت، أن أضع أمام الناس صورة متكاملة للتجربة كلها: الضوء والظل، النجاح والفشل، الأصيل والدخيل فى كل ما جرى وكان.

- وخشيتى من الكتابة الآن أن القوى الظاهرة على السطح هى قوى الثورة المضادة.

- ومع إيمانى بأن أى تقييم نزيه لتجربة عبد الناصر سوف يعطيه أكبر كثيراً مما يأخذ منه - فإن قوى الثورة المضادة الظاهرة على السطح الآن تستطيع التركيز على الجوانب السلبية لكى تضرب بها الجوانب الإيجابية الضخمة، ومن ثم تطمس بذلك وجه الحق فى التجربة كلها، وتصبح شهادة التاريخ مطية للأحقاد وأداة من أدوات المخطط المرسوم - بصرف النظر عن نوايا الشهود وحسن قصدهم!".

وعندما استبيح التاريخ.. وخرج من النسيان عشرات من رواة الحكايات عن عصر عبد الناصر - سمعت كثيرين يسألوننى:

- كل هؤلاء تكلموا، وبعضهم دعم روايته بثقة شاهد العيان، وأنت متى تتكلم؟".

- وكان ردى دائماً:

- دعوا الكلام لمن يريد الكلام..

ولو أصغينا جيداً لوجدنا المتكلمين يروون فى الواقع عن أنفسهم وليس عن عبد الناصر.. بعضهم يبحث لنفسه عن تاريخ فى الماضى وبعضهم يبحث عن دور فى الحاضر.

ثم أن الروايات كلها قادمة من النسيان، وإلى النسيان تذهب.

الاختلاق واضح فى كثير منها، حتى أن بعض الذين قابلوا جمال عبد الناصر لدقائق ينسبون إليه - بخيالهم - أحاديث تستغرق أياماً بعد أيام. والروايات معظمها مختلط متضارب.

بل أكثر من ذلك، فلو صدق الناس كل ما يروى لكان تصديقهم شهادةً لجمال عبد الناصر وليس شهادةً عليه، فإذا كانت كل هذه الروايات تمثل "عقول" هؤلاء جميعاً - إذن فلقد كان الرجل فعلاً معجزة زمانه... إذ كيف تسنّى له أن يحقق كل ما حقق ومثل هؤلاء جميعاً من حوله؟!

لم يكونوا معه فى إيجابياته كلها وبشهاداتهم.

ولم يتجاسروا جميعاً على سلبياته حتى جاء الموت ومنحهم الحرية، وهذا شىء سيئ، وأسوأ منه أنهم ظلوا من 28 سبتمبر 1970 إلى بداية سنة 1974 يتمسحون بذكرى الراحل والرحيل كأنهم لا يصدقون المقادير...

ثم بعد أربع سنوات كاملة اطمأنوا فيها إلى أن الجسد المكفن بالثوب الأبيض لن يخرج من قبره - فتحوا أفواههم وتكلموا!".

وتجاوز الكلام كل حد معقول، وكان آخره اتهام جمال عبد الناصر بأنه اختلس لنفسه وهرب إلى الخارج لحسابه مبلغ خمسة عشر مليوناً من الدولارات: خمسة منها قدمها الملك سعود تبرعاً للمجهود الحربى المصرى، والعشرة الباقية قدمها الملك سعود أيضاً قرضاً لمصر، ولكن جمال عبد الناصر اغتصب هذا كله لمنفعته الشخصية وأودع الأموال فى حساب باسمه فى الخارج.. هكذا!

أكثر من ذلك فإن جمال عبد الناصر أقدم على هذا التصرف فى وقت محنة عربية كبرى، وهى تلك الأيام السوداء من يونيو سنة 1967.. هكذا أيضاً!

ومع أن هذه القذيفة من السموم طاشت وأخطأت هدفها ووقعت على الأرض وانكشفت شحنتها السوداء - إلا أن المسألة مازالت تحتاج إلى كثير من التأمل والتفكير، ثم إنها تثير عديداً من الأسئلة الحائرة:

كأن المصادفات أرادت أن تجيب بالصدق على هذه الأسئلة الأخيرة: لماذا؟ وما هو الهدف؟ ولحساب من؟

- ماذا إذا لم تكن غضبة جماهير الشعب فى مصر وفى العالم العربى على هذا النحو الذى كانت عليه مما استوجب البحث عن الحقيقة وإظهارها فى ساعات قليلة؟

- ماذا إذا لم يكن ثلاثة من أبرز شخصيات مصر، عاصروا موضوع تبرع الملك سعود بخمسة ملايين دولار وإقراضه لمصر عشرة ملايين أخرى، وقد عاشوا التفصيلات كلها مازالوا قادرين على الكلام، وهم يعرفون أن هذه المبالغ جاءت فى النور ووضعت فى البنوك التى كانت مرصودة لها: وضع مبلغ التبرعات فى حساب خاص بالتبرعات فى بنك مصر مفتوح باسم رئيس الجمهورية وانتقل من جمال عبد الناصر إلى أنور السادات حين ولى المنصب - ثم أن مبلغ القرض جرى تحصيله باسم البنك المركزى المصرى ودخل فى حساباته. والثلاثة هم: حسن عباس زكى وعبد العزيز حجازى وهما وزيران وقتها للاقتصاد والخزانة وأحمد زندو المحافظ الحالى للبنك المركزى؟

- ماذا لو لم تكن الوثائق فى متناول يد أحمد زندو محافظ البنك المركزى، وكان الرجل يملك الشجاعة الكافية ليتقدم رغم الجو الخانق ويقول بأمانة:

حرام هذا الذى يفترى به.. وهذه هى الوثائق تنطق بالحقيقة!؟".

- ماذا إذا لم يشعر رجل مثل ممدوح سالم بحسه ومسئوليته أن إخفاء الحقيقة أو تمويهها يمكن أن يؤدى إلى عواقب خطيرة داخل البلد تؤثر فى أمنه؟

- ماذا إذا لم يكن هذا كله؟

وهل كان الاتهام يظل معلقاً على سمعة عبد الناصر؟

وما هو الهدف؟ ولحساب من؟

فى نفس الأسبوع الذى ثارت فيه هذه الزوبعة المثقلة بالسموم ضد جمال عبد الناصر - حملت وكالات الأنباء العالمية قصتين إخباريتين مصدرهما واشنطن:

... القصة الإخبارية الأولى كتبها "دونالد روثبرج" أحد مراسلى وكالة "الأسوشيتدبرس" فى العاصمة الأمريكية ونصها كما يلى:

أعلن "جون ماركس" أحد مؤلفى كتاب "عبادة المخابرات" أن وكالة المخابرات المركزية الأمريكية حاولت ثلاث مرات فى أواخر الخمسينات اغتيال جمال عبد الناصر.

وقد رتبت المخابرات الأمريكية فعلاً ثلاث فرق للاغتيال تقوم بهذه المهمة، ولكنها لم تنجح فقد قبض على إحداها، وعجزت الأخرى عن تنفيذ المهمة، كما أن الثالثة وهى مكونة من عرب فى خدمة المخابرات الأمريكية لم تبلغ عما حدث لها بعد أن وصلت فعلاً إلى مصر.

وقال "جون ماركس" إن التخطيط لمحاولات اغتيال جمال عبد الناصر بدأ فى اجتماع لمجلس الأمن القومى الأمريكى كان يحضره "جون فوستر دالاس" وزير الخارجية الأمريكية الأسبق، وكان يحضره أيضا شقيقه "آلان دالاس" الذى كان فى ذلك الوقت يشغل منصب مدير وكالة المخابرات المركزية الأمريكية.

وحدث أن عرض فى هذا الاجتماع تقرير عن الأضرار التى تسببها سياسات جمال عبد الناصر لمصالح الولايات المتحدة فى المنطقة، وقال جون فوستر دالاس:

- ألا تستطيع المخابرات "تصفية" هذه المشكلة؟

واعتبر آلان دالاس أن هذه العبارة تكليف رسمى بتصفية جمال عبد الناصر، وبدأ الترتيب لاغتياله.

هذا ما نقلته وكالة "الاسوشيتدبرس" على لسان "جون ماركس".

ولكى يوضع هذا الكلام فى حجمه الحقيقى فلابد أن نتذكر أن "جون ماركس" بدأ حياته دبلوماسياً فى وزارة الخارجية الأمريكية، ثم عمل على سكرتارية "اللجنة الخاصة للتنسيق المشترك" بين وزارة الخارجية الأمريكية ووكالة المخابرات المركزية، وهى اللجنة التى تعرض وتناقش وتقر كل جوانب النشاط الخفى للولايات المتحدة فى المجال الخارجى - ثم انتقل بعد ذلك إلى خدمة المخابرات، وكلف بمهام فى "فيتنام" فى إطار "مشروع التهدئة" الذى كان يتولاه فى ذلك الوقت "ويليام كولبى" مدير وكالة المخابرات المركزية الأمريكية فيما بعد، وحتى شهر واحد مضى.

و"مشروع التهدئة" فى فيتنام - لمجرد التذكرة أيضاً - هو المشروع الذى جرت بمقتضاه تصفية كل الزعماء الحاليين والمحتملين فى الريف الفيتنامى، وبشهادة "كولبى" نفسه فإن جهاز "التهدئة" بإشرافه تمكن من اغتيال قرابة خمسة وعشرين ألف شخص فى "فيتنام الجنوبية" على مدى أربع سنوات مارس فيها نشاطه!

وفى "فيتنام" بدأ ضمير "جون ماركس" يتحرك رغم نصائح قدمها إليه كثيرون من زملائه، ملخصها على حد تعبيره هو "لا تكن مثالياً وعليك أن تعيش الدنيا كما هى فى الواقع" لكن ضمير "جون ماركس" تمرد فى النهاية، فإذا هو يستقيل من الوكالة..

وإذا هو يتفق مع زميل له هو "فيكتور مارشيتى" على فضح أسرار المخابرات الأمريكية فى كتابهما الذى اشتهر فيما بعد وهو "عبادة المخابرات"...

وربما تبرز أهمية هذا الكتاب وخطورة ما فيه من معلومات إذا تذكرنا أنه كان الكتاب الوحيد الذى خضع لرقابة صحفية بحكم محكمة فيدرالية فى الولايات المتحدة الأمريكية، فلقد رفعت إدارة المخابرات المركزية قضية على المؤلفين تتهمهما فيها بأنهما أخلا "بتعهد السرية" الذى وقعه كل منهما أثناء عمله فى خدمة الوكالة وأفشيا أسراراً كثيرة يمكن أن تضر بأمن الولايات المتحدة فى كتابهما.

وبالفعل فإن المحكمة بناء على ما طلبته وكالة المخابرات المركزية الأمريكية أمرت بحذف 339 فقرة من كتابهما. ولقد قرر المؤلفان أن يتركا الفقرات المحذوفة بيضاء فى كتابهما، ولعله الكتاب الوحيد الذى صدر على هذا النحو أخيراً فى العالم كله، ويلحظ قارئه أن معظم الأجزاء المحذوفة تتصل موضوعاتها بنشاط وكالة المخابرات المركزية فى الشرق الأوسط.

هكذا إذن وبشهادة خبير عارفاً بما يقول... حاولوا تصفية جمال عبد الناصر كإنسان باغتياله... تماماً كما فعلوا مع "سلفادور الليندى" فى "شيلى" ومع "باتريس لومومبا" فى الكونجو.

... نجىء إلى القصة الإخبارية الثانية وهى تتعلق بتقرير رسمى أذيع من واشنطن عن تحقيقات لجنة السناتور"تشرش" فى نشاط وجرائم وكالة المخابرات المركزية الأمريكية، وكانت جريدة "نيويورك تايمز" بين الوسائل الصحفية التى نقلت كثيراً من تفاصيله.

يتحدث التقرير فى جزء منه عن الأساليب التى اتخذتها وكالة المخابرات المركزية الأمريكية فى مجال توجيه الرأى العام فى العالم منذ بدلت نشاطها أثناء الحرب العالمية الثانية تحت اسم "وكالة الخدمات الخاصة"، ثم تحولت بعد ذلك بقانون أصدره الرئيس الأسبق "هارى ترومان" إلى"وكالة المخابرات المركزية الأمريكية".

ويرسم التقرير صورة عجيبة لنواحى النشاط التى لجأت إليها المخابرات المركزية الأمريكية فى مجالات الصحافة والنشر والإعلام بصفة عامة لكى تضمن تحقيق أغراضها:

- من ذلك مثلاً أن الوكالة أنشأت من وراء الستار دوراً صحفية فى عديد من بلدان العالم الثالث، وكان تمويل هذه الدور كله من مصادر الوكالة. كما أن هناك أدواراً أخرى ساعدت الوكالة على إنشائها ولم تطلب من أصحابها شيئاً محدداً بالذات، ولكن مجرد ربط مصالحهم بالوكالة حقق "تكييف" اتجاهاتهم مع أغراض هذه الوكالة، على حد نص تعبير التقرير.

- وأنشأت الوكالة أو ساعدت على إنشاء وكالات أنباء وصور نشطت وراء جمع الأخبار والصور بطريقة عادية، ولكنها التوت قليلاً بالنشر بما يكفل إعطاء انطباعات معينة تريدها الوكالة، أو تلاعبت بنقط التركيز فيما تنشره وتوزعه لكى تؤكد هذه الانطباعات.

- وأنشأت الوكالة قسماً خاصاً لتزييف الكتب، ويشير التقرير إلى أن الكتاب الذى روّجت له الدعايات قبل سنوات تحت عنوان "أوراق نبكوفسكى" - والذى قيل فى ذلك الوقت إنه اعترافات جاسوس للاتحاد السوفيتى يكشف فيها أسرار ودخائل النظام السوفيتى - إنما هو فى واقع الأمر من صنع وكالة المخابرات المركزية الأمريكية وتأليفها.

- ثم أنشأت الوكالة قسماً خاصاً للتشويه الإخبارى MISINFORMATION كانت مهمته صنع قصص إخبارية تخترع بالتلفيق -!- حكايات يكون من شأن إذاعتها تشويه حقائق معينة أو تشويه سمعة أشخاص بعينهم يتصدون للسياسة الأمريكية أو يعارضون مقاصدها.

ويتعرض التقرير بالتفصيل للأساليب التى تستعملها أجهزة المخابرات الأمريكية فى عمليات التشويه عن طريق زرع الأخبار والقصص بحيث يبدو مظهرها بريئاً يساعد أكثر على تحقيق ما هو مقصود منها، ويضرب التقرير مثالاً من ذلك فيقول إن المخابرات تنجح فى أن تدس خبراً صغيراً ملغوماً على جريدة غير مشهورة فى بانكوك - عاصمة تايلاند - ثم تلفت إليه بطريق غير مباشر أنظار جريدة أخرى أكثر منها شهرة فى هونج كونج، ومن هونج كونج يعثر مندوب لإحدى وكالات الأنباء العالمية على الخبر فيضعه على أسلاك وكالته ويكتسب من اسمها قوة تصديق ينسى الناس معها بدايته المتواضعة فى بانكوك، وهكذا يلف الدنيا ويصبح على كل لسان منسوباً إلى وكالة الأنباء العالمية.

ويلفت النظر أنه عند التعرض لمناقشة هذا الجزء من التقرير أمام لجنة مجلس الشيوخ الأمريكى أن بعض أعضائها أثاروا نقطة فرعية: إن مثل هذه الأخبار المزروعة والملغومة بقصد التشويش أو بقصد التشويه سوف تصل إلى الولايات المتحدة وإلى شعبها ضمن رحلتها البرقية عبر الكرة الأرضية..

وهذا معناه أن المخابرات الأمريكية لا تضلل الرأى العام العالمى فحسب وإنما هى تضلل الرأى العام الأمريكى الذى تصل "مصنوعات" المخابرات الأمريكية إليه ضمن من تصل إليهم فى بقية أرجاء العالم.

واعترف "كولبى" مدير المخابرات الأمريكية أن هذا الاحتمال - احتمال تضليل الرأى العام الأمريكى ذاته - احتمال وارد، ولكن المخابرات الأمريكية تحاذر قدر الإمكان "وتجتهد أن تقلل تأثير مثل ذلك على الرأى العام الأمريكى".

وأشار التقرير أيضاً إلى أن المخابرات الأمريكية زودت بعض السياسيين فى العالم بمعلومات وحكايات ووثائق تخدم أغراضها.

وبعض هؤلاء السياسيين لم يكونوا يعرفون المصدر الحقيقى الذى جاءتهم منه هذه المعلومات والحكايات والوثائق، فقد كانت فى الغالب تصلهم عن طريق مصدر تبدو براءته، وتحاط عملية تسليمهم ما يتسلمونه بأجواء مسرحية تقنعهم أن ما حصلوا عليه أسراراً بعيدة المنال على غيرهم، ويراعى أن يكون ما يتسلمه هؤلاء السياسيون متفقاً مع أهوائهم ومشاربهم بحيث تصبح شهوة إذاعته - حتى قبل التحقق منه - حارقة غير قادرة على الانتظار. وعلى فرض أن المعلومات والحكايات والوثائق ظهر كذبها وادعاؤها فإن بعض الطنين يبقى فى الآذان".

وأعود إلى الحرب المستمرة على جمال عبد الناصر:

- حاولوا قتله وقتل سياساته مادياً، وحاولوا ثلاث مرات يعترف بها "جون ماركس" فى شهادته، ومن يعرف كم من المحاولات جرت ولم يعرفها جون ماركس ولم يعترف بها؟

- ويحاولون الآن اغتيال ذكراه وتاريخه معنوياً وبالتشويه والتشويش، ورغم مضى قرابة ست سنوات على الرحيل فإن الحرب الشاملة ضده تزداد حدة وتتصاعد مع كل يوم.

0 comments:

إرسال تعليق

 
تصميم وتنفيذ الادارة التنفيذية