
ربما يكون ربيع دمشق هو اليد الجبارة التي أسقطت القناع عن وجه حزب الله الحقيقي، الذي طالما كان متخفيا خلف حركات المقاومة والثورات والإنتفاضات في العالمين العربي والإسلامي، مزايداً علينا وعليها أيضا بأنه صانعها تارةً، وتارةً أخرى بأنه ملهمها.
منذ اللحظة الأولى لازدهار الربيع في العالم العربي, لم يتوان حزب الله عن إعلان تأييده ودعمه ووقوفه خلف وأمام وإلى جانب الشعوب العربية في ثوراتها، بدءا من تونس، مرورا بمصر وليبيا والبحرين واليمن، مع تفاوت لافت في حجم التأييد والدعم وفقا للمقتضيات السياسية. لكن، حين وصل الموسى إلى اللحية، وخرج أهالي حوران في أول مظاهرة ضد نظام الأسد، دار حزب الله على أعقابه. تغير الخطاب الحماسي، وصارت الثورة فوضى والثوار متآمرين!
لم يكن موقف حزب الله من الثورة السورية مفاجئا، فهو مسار إجباري لطبيعة تحالفاته، كونه جزءاً من محور الممانعة والمقاومة في المنطقة الذي يضم إيران وسوريا بالدرجة الأولى، والذي ضم قطر وتركيا في وقت سابق. لكن ذلك لا يبرر له أن يتحول إلى اسفنجة تمسح وسخ النظام البعثي، متقدما على موقف إيران، حاضنة الحزب الإلهي والنظام الخالد التي آثرت أن تتعامل بكثير من الدبلوماسية الذكية مع الأحداث في سوريا، و قدمت صورة، ولو كانت في الظاهر فقط ، أنها تمسك العصا من وسطها. فهاجمت الشعب السوري بنعومة، ولم تشن عليه الحملات الإعلامية، واستمرت في الوقت نفسه في نصح النظام بضرورة البدء في عملية الإصلاح. ويعود ذلك إلى البراغماتية التي تميز الشخصية الإيرانية، التي تنشد التوازن تحسبا، فلا تذهب في الأمور إلى أواخرها سلبا أم إيجاباً، ولا تستعجل العداءات كما لا تتلهف للصداقات.
فما الذي يدفع حزب الله إذا إلى هذا الخطاب العدائي ضد الشعب السوري، خاصة خطاب نصر الله الأخير يوم العاشر من محرم؟
لا يخفى على أحد أن السيد حسن نصر الله أمين عام حزب الله يتمتع بهامش ضيق جدا من الحرية، على صعيد تحركاته بالطبع، وكذلك على صعيد مواقفه. فالمسدس دائما مصوب إلى رأسه وليس إلى رأس جنبلاط، كما يحلو للزعيم الدرزي أن يردد. نصر الله ليس بيده إتخاذ أي قرار استراتيجي في الحزب، لا في الحرب ولا في السلم. ويتبع ذلك القرارات السياسية أيضا. هو برتبة قائد ميداني في الحروب، وعبد مأمور في السياسة. ينفذ دون أن يعتر،ض، خاصة في الآونة الأخيرة، حيث رهن نفسه وحزبه وطائفته لنظام مريض أعماه فقدان سيطرته على شعبه، حين اكتسى عظم الثورة السورية لحما، فراح يفرضها على شعب آخر.
نصر الله لا يُحسد على وضعه فهو محاصر من كل الجهات، في الداخل والخارج. وكما تخلص النظام البعثي من شخصيات لبنانية قبله، سواء كانت حليفة أو معادية له، سوف يتخلص من نصر الله حين يخالف أوامره. هذا من ناحية. ومن ناحية أخرى، سوف يغلق بوجهه مسارب السلاح الذي يصله من إيران، ولن يتوانى في لحظة ضيق ما عن المساومة مع الإسرائيلي على محاصرته، والتخلص منه إذا دعت الحاجة. لأن تاريخه حافل بالمواقف التي أجاد فيها لعبة خلط الأوراق وتجاوز الخطوط الحمر والمساومة حتى على المقدسات.
تردد في حرب تموز 2006 أن الطائرات الإسرائيلية أصابت منزلا كان يختبئ فيه نصر الله. وما ساعد على شيوع الخبرية هو غياب نصر الله عن الظهور الإعلامي لمدة أربعة أيام, وبعد أن استشرى خبر احتمال إصابته، وكادت معنويات أتباعه أن تنهار، سارعت "إذاعة النور" في نقل خطاب مقتضب له بدا فيه صوته منهكا وغير قادر على ضبط مخارج الحروف! ما أثبت صحة الخبر! هذا كلام مضى وانتهى.
المفيد هنا أن فزاعة نصر الله لا بد أنها تروق لإسرائيل، لذلك تحافظ عليها ولا تغامر في التخلص منها على الأقل في الوقت الحاضر. وهي لو أرادت ذلك لفعلت، خاصة في الفترة التي سبقت اكتشاف حزب الله لشبكة التجسس الأخيرة، التي كان في عدادها مسؤولون عن أمن نصر الله الشخصي يعود تاريخ تعاملهم مع العدو وجهاز "السي آي أي" إلى فترة ما قبل حرب تموز 2006. هذا الشيء يؤكد أن لا نية حقيقية لدى العدو في اغتيال نصر الله، في هذا الوقت على الأقل، على قاعدة أن التطرف لا يبرره سوى التطرف، وباللغة الإلهية الدارجة يطلق على هذه المراوحة مصطلح "توازن الرعب".
وتوازن الرعب استراتيجية جديدة دخلت قاموس حزب الله كعدوى انتقلت إليه بالمجاورة من حزب البعث، وهي تعني بطريقة أخرى "الرد في الزمان والمكان المناسبين". وقد استعملها نصر الله، أول مرة، بعد عملية اغتيال عماد مغنية رئيس المجلس الجهادي.
رغم أن مغنية كان رأس حزب الله العسكري، إلا أنه لا يمكن يقارن بنصر الله، على الأقل على المستوى الشعبي والثقل السياسي، لكن عسكريا ما زال الأمر مبهما، لأن حزب الله لم يقد حربا بعد منذ ما بعد مغنية ليتبين حجم الفراغ العسكري الذي تركه هذه الرجل. والسؤال المحير الذي يطرح نفسه هنا: ما الذي يمنع أو منع اسرائيل حتى الآن من تصفية نصر الله؟ ورغم أن عملاءها كانوا قريبين جدا منه في وقت ما ولفترة طويلة، في مقابل سعيها الدائب إلى تصفية مغنية وكان لها ما أرادت؟ وهذا يفضي بنا إلى سؤال آخر هو: هل صحيح أن إسرائيل هي التي اغتالت مغنية، أم جهة أخرى بطلب من إسرائيل؟
يعرف نصر الله كيف يتدبر أمره مع رياح الخطر التي تهب عليه من جهة الجنوب، لكن رياح الشمال قد تكون قاسية ومدمرة. وما وقوفه إلى جانب نظام أقل ما يقال عنه أنه يقتل شعبه، وتشبيه حربه المفتوحة ضد المتظاهرين السلميين بخروج الحسين إلى الكوفة لمحاربة الظلم، إلا هروب إلى الأمام، وتعويق لنهاية محتومة كانت بانتظار كثير من الشخصيات و الزعماء والوطنيين في لبنان يدرك نصر الله جيدا أن النظام الذي يتكئ عليه اغتالهم لأنهم امتنعوا عن تنفيذ أوامره.
حزب الله تسرّع في إسقاط حكومة الوحدة الوطنية، وعزل سعد الحريري وتنصيب ميقاتي مكانه، والإنقلاب على نتائج الإنتخابات النيابية، والإتيان بحكومة لا تشارك فيها المعارضة مدفوعا بمباركة سورية لم تكن في وارد أن تجد نفسها في مواجهة مارد تحرك على أرضها فجأة امتثالا لنداء الحرية الذي أطلقه موسم الربيع العربي! وحين انطلقت الثورة العظيمة في سوريا، كان أوان التراجع قد فات، وكان البعث قد أدخل الحزب ودخل معه في النفق المظلم. ووجد كلاهما نفسه في مواجهة عارية مع شعبه ومع استحقاقات لم يكن يحسب لها حساب.
نظام البعث منشغل الآن بوضعه الداخلي، يعد على أصابعه ما تبقى له من أيام في السلطة. وهو يستنجد بحزب الله من وقت إلى آخر لأنه الإبن المطيع المتبقي له من أسرة الممانعة. لذلك يطلب منه القيام بكل المهمات الصعبة، والمستحيلة أحيانا: تصريحات،خطب، مواقف، مسيرات، صواريخ مشبوهة، وتفجيرات محددة. ورغم أن العطار لا يصلح ما أفسده الدهر كما يقول المثل، إلا أن الخوف من القصاص هو الدافع الخفي لحزب الله في تنفيذ أوامر النظام المنهار، والذي قد يكون على سبيل المثال: إغلاق طرق الإمدادات، احتجاز ما تبقى من الترسانة العسكرية، وشوشة في أذن الإسرائيلي للبدء بالعد العكسي.
أما الداخل فهو محقون أساساً، وسوف يقف متفرجا إذ لم نقل شامتاً،على هبوطه المدوي.
بقلم علي حيدر
0 comments:
إرسال تعليق