خالد الناصر
من المؤكد أن جمال عبد الناصر – وهو يفجر ثورة 23 يوليو 1952 ويقود مسيرتها – لم يخترع مقولة اسمها " القومية العربية " ولا ابتدع كيانا اسمه " الأمة العربية " ولا اصطنع شيئا يسمى " عروبة مصر " وانتماءها لحضارة وثقافة تحمل اسم الحضارة العربية الإسلامية , فكل هذه الأمور كانت موجودة حتى ولو بشكل غير فعال أو منقوص أو في تضاد مع بعضها يعطلها ؛ فلقد كانت هناك عروبة مبهمة بلا قاعدة دون مصر , وكانت هناك مصر حائرة بلا هوية دون عروبة . ولكن عظمة هذا القائد التاريخي وثورته الكبرى أنه وضعها جميعا على الطريق الصحيح تاريخيا وموضوعيا ؛ فأعاد ترتيبها بحيث تتكامل وتتعاظم تأثيرا , وأعطاها مضامينها الحقيقية وربطها ببقية أبعاد النضال الأخرى , وبذلك أصبحت الناصرية هي محتوى القومية العربية الأكثر تقدما واستراتيجيتها الأكثر فعالية لبلوغ أهدافها . والحقيقة أن هذا لم يأت اعتباطا ولا صدفة وإنما في سياق عملية تاريخية تضرب في أعماق الزمن العربي وتتفاعل تحت السطح في المنطقة حتى جاءت الشرارة المطلوبة ( ثورة يوليو ) في مركز الثقل والموقع الصحيح ( مصر ) وبوجود القيادة التاريخية المؤهلة ( جمال عبدالناصر ) كما سنرى ونحن نحلل هذا السياق ونستوعب كيف تطور البعد القومي لهذه الثورة : من تغيير حدث في مصر ورفع أهدافا ستة مطلوبة في مصر نفسها لتصبح بعد حين الثورة الأم للثورة العربية والقاعدة الأساس لحركة القومية العربية ونضالها لتحقيق أهدافها المتكاملة والمتفاعلة ( الحرية والاشتراكية والوحدة ) . وبدون أن ندخل في تفاصيل نظرية ليس هنا مكانها ننطلق من حقيقة لم تعد بحاجة إلى إثبات وهي أن القومية العربية هي في جوهرها تعبير عن وجود وتجسيد انتماء تمثله وتعيشه الجماعة البشرية المتواجدة فوق رقعة جغرافية بعينها من جنوب غربي آسيا إلى أقصى الشمال الغربي من أفريقيا , وهي أيضا الجماعة التي اكتمل نموها وتبلور تكوينها عبر نهر تاريخ المنطقة مزودا بروافد ثرية شتى من الحضارات القديمة العريقة من مصر إلى الشام ومن العراق واليمن إلى شمال أفريقيا والمغرب الأقصى .. ثم اكتمل هذا التكوين القومي بانبلاج فجر الإسلام متميزا بخاصة فريدة بين العقائد السماوية تتمثل في العربية – لغة القرآن الكريم الذي لم يهب هذه الجماعة لسانها المعبر وحسب بل هيأ لها أيضا منظومة من القيم الروحية السامية , أذكت بين جوانح أبنائها الشوق للتطور والإبداع وأمدتها بطاقة لا تنفد من الاستنارة والرشد مما كفل لها سبل الانفتاح على حضارات الأمم التي سبقت كي تنهل من أفضل ينابيعها وتترجم عن ألسنتها , وشارك في هذا الجهد العلمي النهضوي أجيال مستنيرة من أبناء الديانات الأخرى في إطار من أخوة التسامح وجلال العلم وإرادة التجديد . وفي سياق هذا التفاعل التاريخي الممتد عبر العصور لعبت مصر – باعتبارها الاقليم المركزي في هذه المنطقة والكتلة المتماسكة منذ فجر التاريخ – دورا أساسيا في بناء هذا الجسم القومي والحفاظ عليه , فكانت فعلا كما وصفها الرسول الكريم الكنانة التي تلم الأسهم العربية وتمنعها من التشتت . .
1- فلقد كانت الجسر والقاعدة الذي امتد منهما الكيان العربي الاسلامي إلى جناحه الغربي في شمال أفريقيا وظل يشده إليه .
2- كانت دائما خط الدفاع الأخير عنه ضد الأخطار المصيرية التي تهدد بفنائه , وتجلى ذلك في أكثر من شاهد تاريخي : - فالزحف المغولي الذي تساقطت أمامه القلاع العربية المشرقية وبدا أنه لاراد له , لم ينكسر إلا على صخرة جيش مصر بقيادة قطز في معركة عين جالوت على أرض فلسطين . - والغزوات الصليبية التي امتدت قرنين من الزمان لم تنحسر إلا في معركة حطين بعد استعادة مصر إلى موقعها الأساسي في الجسم العربي على يد صلاح الدين .
3- كانت مهد محاولة النهضة العربية الأولىالتي تمت على يد محمد علي ومشروع ابنه ابراهيم باشا لتوحيد المنطقة العربية بعد الليل العثماني الطويل وتكالب القوى الاستعمارية الغربية لاقتسامها .
4- كانت الملجأ الطبيعي الذي حضن أفواج المفكرين السياسيين والدعاة الدينيين والصحفيين الأحرار من مشرق الوطن العربي ومغربه الذين هاجروا إليها ولاذوا بشعبها من الطغيان العثماني ومن بعده الأوروبي في القرن التاسع عشر والنصف الأول من القرن العشرين , وتفاعلوا بشكل رائع وخلاق مع نظرائهم وتلاميذهم في مصر سواء ممن تخرجوا من الأزهر الشريف أو ممن عادوا من بعثاتهم في أوروبا .
وكان أن أصبحت مصر – موضوعيا – ومع فجر القرن العشرين منبرا للفكر العربي ومسرحا لفنونه وموئلا لكل أحرار العرب من وراء الحدود التي رسمها الاستعمار الأجنبي . ولكن مصر ورغم ذلك كله كانت مطلع القرن العشرين ونصفه الأول في غفلة عن دورها المطلوب , ملهية بنفسها وصراعها مع الاحتلال الإنجليزي عن إيجاد صياغة جدلية – كدأبها تاريخيا – تجمع النضالات العربية التي تفرقت في تلك الفترة إلى اتجاهين رئيسيين : - ففي مواجهة مخطط الفرنسة في المغرب الكبير تمسك أبناؤه بلإسلام .. دينا وثقافة ولغة وتعاليم كقوة دافعة ضد مشاريع الاحتلال والاستيطان . - وفي مواجهة الهجمة الطورانية رفع أبناء المشرق العربي – مسلمين ومسيحيين – لواء القومية العربية للتمايز عن المحتل التركي المسلم والتخلص من نيره . ولا يزال لهذا التوزع آثاره السلبية حتى الآن فيما نشهده من محاولات مفتعلة لوضع العروبة في تناقض مع الإسلام .
بينما كان ساطع الحصري – رائد الدعوة القومية العربية منذ الربع الأول من القرن العشرين – يكتب في عشرينات وثلاثينات ذلك القرن داعيا مصر إلى الاضطلاع بدورها التاريخي في قيادة مسيرة النضال العربي نحو التحرر والوحدة , كانت طلائع الوعي القومي تنمو وتنضج في نفس فتى من صعيد مصر هو جمال عبدالناصر , ابتداء من مشاركته كطالب في المظاهرات الداعية إلى إسقاط وعد بلفور بوصفه أول حلقات مشروع الاستيطان الاستعماري الصهيوني في قلب الأرض العربية , وليس انتهاء بمشاركته كضابط شاب في معارك فلسطين عام 1948-1949 حيث التحم الوعي السياسي بالتجربة النضالية على أرض الواقع , وحيث عاد بدرس مستفاد من معارك فلسطين عبرت عنه كلمات سجلها في كتاب ( فلسفة الثورة ) حين قال : " ولما انتهت المعارك وعدت إلى أرض الوطن , كانت المنطقة العربية في تصوري قد أصبحت كلا واحدا " . لقد تداخلت عوامل شتى في التكوين الفكري لجمال عبد الناصر .. منها الوعي بمأساة فلسطين إلى خوض تجربة الحياة والموت على أرضها , ومنها دراسة وتدريس تاريخ الحملات العسكرية على مصر والمشرق العربي في كلية أركان الحرب , فضلا عن المتابعة الميدانية من جانب الضابط الشاب ورفاقه للمشهد السياسي الداخلي في مصر الذي تجلى على مسرحه طغيان القصر الملكي وصراعات الساسة والأحزاب التقليدية والدعوات الانعزالية التي كانت تحاول شد مصر إما إلى التقوقع حول ماض سحيق ( الدعوة الفرعونية ) أو إلى الانتماء للخارج الأجنبي الغريب عنها لغة وثقافة ودينا ( حضارة البحر المتوسط ) . وكان أن تشابكت وتفاعلت تلك العوامل في مجموعها ليتشكل منها المنظور الذي أطلت منه القيادة التاريخية بعين التأمل الواعي وقدرة الفعل السؤول , على ما آلت إليه أحوال الأمة العربية صبيحة يوم الثورة في 23 يوليو 1952 .
لقد كان الوضع العربي قد بلغ ذروة الأزمة عشية ذلك اليوم الفاصل , فلقد كانت الأمة قد تم تمزيقها إلى أشلاء متناثرة وتم احتلال معظم أجزائها ؛ فالمغرب العربي يرزح بكامله تحت نير الاستعمار الفرنسي والاسباني , وليبيا تحت الاحتلال الإيطالي , ومصر والعراق والخليج وجنوب اليمن تحت الحماية أو الاحتلال الانجليزي , وفلسطين تم اغتصابها وإقامة الكيان الصهيوني فيها , وما لم يحتل كان يغط في سبات القرون الوسطى . أما الأقطار التي بدأت بالحصول على استقلالها فكانت ضعيفة عاجزة أمام مهام التنمية وضغط الحركات القومية التي رفعت شعار الوحدة والتحرر مع أنها كانت غضة العود ومحصورة في المشرق العربي وبشكل أساسي في بلاد الشام , ولكن التوق إلى الوحدة كان يعتمل كالجمر تحت الرماد ويقلق الدول الاستعمارية والأنظمة الوليدة المرتبطة بها بدرجة أو بأخرى ؛ فكان أن تم إنشاء الجامعة العربية – بجهد من بريطانيا أساسا – لتهدئة الخواطر ولتنسيق الجهد الإقليمي العربي بما يحافظ على استقرار وضع الدول العربية على ما هو عليه . وجاءت هزيمة 1948 أمام العصابات الصهيونية لتكشف عورة النظام الإقليمي العربي وهشاشة أنظمته , وبدأت ردود الفعل الأولى بالانقلابات العسكرية المتتالية في المشرق العربي ( سوريا أساسا ) دون أن يتغير من الأمر شيئا .. إلى أن جاءت حركة الضباط الأحرار بقيادة جمال عبد الناصر لتفتح الطريق أمام الفعل الحقيقي الذي طال انتظاره . من المفارقة أن ما بدا من إغفال لمسألة الوحدة العربية في الأهداف التي رفعتها الثورة غداة قيامها وتركيزها على إصلاح وضع مصر الداخلي وتأمينه , كان هو المنطلق الحقيقي والواقعي للبعد القومي لثورة 23 يوليو لأنه هيأ الأساس الموضوعي لعودة مصر إلى عروبتها وإلى دورها المطلوب باعتبارها قلب الوطن العربي ومركز ثقله ؛ أو بعبارة أخرى الإقليم القاعدة الذي يشد بقية الأجزاء إليه . وعليه , فلم تمض على الثورة شهور حتى أصدر عبد الناصر وثيقته الفكرية الأولى ( فلسفة الثورة ) التي بلور فيها بأوضح وأبلغ العبارات هذا الدور الذي لايمكن تجاهله ولا النكوص عنه . وفي الذكرى الأولى للثورة كلف عبد الناصر فتحي الديب – الجندي القومي المجهول – بتأسيس صوت العرب ليكون صوت الدعوة القومية العربية من مصر , وملتقى الثوار العرب ووسيلتهم لإيصال صوتهم إلى كل أصقاع الأرض العربية متخطين كل الحواجز التي كانت القوى المستعمرة والرجعية تحاول منعهم بها , وكان لذلك أثر عظيم في تحريض الجماهير العربية وتعبئتها ونجاح كثير من الحركات الثورية . ومن منطلق هذه المسؤولية القومية حاربت الثورة الأحلاف الاستعمارية التي كانت تريد إبقاء المنطقة تحت نفوذها وخرجت من هذه المعركة ظافرة حيث وأدت حلف بغداد في مهده وما لبث أحرار العراق أن أطاحوا في ثورة 14 تموز ( يوليو 1958 ) بالنظام الملكي العميل في بغداد ذاتها . كما جندت ثورة يوليو كل إمكاناتها لنصرة ثورة الجزائر التي انطلقت في 1 نوفمبر1954 لمحاربة الاستعمار الفرنسي والتي ماكان لها أن تنتصر ذلك الانتصار المجيد لولا هذا الإسهام الفعال والمساندة التامة . وبالطبع لم يكن هذا مفصولا عن مساندة عموم الحركة الناشطة لتحرير أقطار المغرب العربي كله كما هو معروف . كما ساندت وساهمت في الثورة ضد الاستعمار الانجليزي في جنوب اليمن وعمان والخليج العربي حتى حمل عصاه ورحل فعلا واستقلت هذه الأقطار . وقبل هذا وذاك تبنت ثورة يوليو ثورة الشعب الفلسطيني ضد الغاصب الصهيوني وحضنت مقاومته وقدمت لها كل دعم من تدريب وسلاح ومعسكرات ومحطات إذاعة وجندت لخدمة القضية الفلسطينية إعلامها وديبلوماسيتها وكل نفوذها الدولي . ولقد كان هذا النشاط الثوري الذي لم يكل ولم يهدأ السبب المباشر للعدوان الثلاثي عام 1956 الذي شنته انجلترا وفرنسا واسرائيل لإخماد شعلة الثورة العربية التي انطلقت من القاهرة . ولكن هذا العدوان واندحاره كان اللمسة الأخيرة الحاسمة التي أوصلت المد القومي إلى أوجه , فتلاحمت الجماهير العربية وطلائعها وحركاتها القومية بثورة 23 يوليو وأصبح عبد الناصر زعيم الأمة وقائد ثورتها ورمز عروبتها . وكانت أولى ثمار هذا المد العظيم تحقق أول وحدة في تاريخ العرب الحديث بين مصر وسوريا في 22 فبراير 1958 . وبقدر تعاظم هذا الدور القومي , تكالبت القوى الاستعمارية واستطاعت فعلا إحداث نكسات مؤلمة في مسيرة النضال العربي تحت القيادة الناصرية .. فكان نجاح مؤامرة انفصال سوريا عن دولة الوحدة التي تشاركت في نسجها الدول الاستعمارية المتضررة من البركان الثوري الذي أطلقته ثورة يوليو في المنطقة العربية والدول الرجعية الخائفة على عروشها بعد أن سحب جمال عبد الناصر منها ولاء شعوبها والقوى الإقطاعية والرأسمالية في سوريا التي استشعرت الخطر على مصالحها بعد قرارات يوليو الاشتراكية عام 1961 والأغرب من هذا قوى اليسار التقليدي التي كانت تنظر إلى الثورة وإنجازاتها بعين الريبة والتشكيك وأيضا بعض القوى القومية التي كانت قد انسحبت من دولة الوحدة وأعماها خلافها معها عن رؤية أن الذي طعن هو هدف الوحدة الذي هو مبرر وجودها أصلا . ولكن رد الثورة وقائدها كان التمسك باسم الجمهورية العربية المتحدة كرمز للوحدة والتحدي , وتعميق خط الثورة السياسي والاجتماعي بإصدار ميثاق العمل الوطني كنظرية عمل تسترشد بها الثورة وجماهيرها في مسيرتها الصاعدة , وكان دعم ثورة اليمن في شطره الشمالي للتخلص من نظام الإمامة المتخلف وفي شطره الجنوبي حتى تحرر من ربقة الاستعمار البريطاني , وكانت استجابته لمشروع الوحدة الثلاثية بين مصر وسوريا والعراق عام 1963 رغم تجربته السلبية مع تلك القوى التي كانت تحكم القطرين المذكورين آنذاك ؛ فلما انهار ذلك المشروع الوحدوي بسبب ذات المواقف التي ساهمت سابقا في انهيار الوحدة الرائدة من قبل تلك القوى ذاتها , طرح عبد الناصر الحركة العربية الواحدة كطريق لتحقيق الوحدة العربية . وكانت نكسة يونيو 1967 أخطر تلك الضربات التي حاولت كسر الثورة الناصرية وإسقاطها أوعلى الأقل حصرها داخل مصر , ولكن عبد الناصر , وهو يعيد بناء جيشه لمعركة التحرير ويخوض حرب الاستنزاف المجيدة , ظل يؤكد على قومية المعركة ويسعى لبناء الجبهة الشرقية ضد العدو الصهيوني , وظل ينادي القدس قبل سيناء , وظل يحرض المقاومة الفلسطينية على رفض ما يضطر لقبوله لأسباب تكتيكية , وعندما شرع النظام الأردني بالبطش بها في أيلول الأسود 1970 نهض لنصرتها وإنقاذها رغم إسفافها في الهجوم عليه , ولفظ أنفاسه الأخيرة شهيد فلسطين والقضية القومية . ولم يقتصر هذا الدور القومي لثورة 23 يوليو على هذه المعارك المباشرة والتعبئة الإعلامية وإنما نهضت لتساهم في دفع عجلة التنمية والتقدم في كل الأقطار العربية إيمانا منها بوجوب بناء قاعدة تحتية متينة تكون الأساس الصلب الذي ينهض عليه صرح الوحدة العربية , فأرسلت البعثات التعليمية من كل المستويات والخبراء في كل الميادين إلى الجزائر واليمن والخليج العربي وإلى كل قطر عربي يحتاج إلى مثل تلك الخدمات , وفتحت جامعاتها للطلبة العرب من كل مكان وبلا حدود , ودربت الضباط العرب في كلياتها العسكرية , ووضعت خبراتها الإعلامية والعلمية والإدارية بتصرف أي قطر عربي يطلبها . كما عملت على تنشيط وإنشاء منظمات المجتمع المدني العربية القومية كالاتحادات المهنية والنقابية العربية كاتحاد المحامين العرب واتحاد الصحفيين العرب والاتحاد الدولي للعمال العرب وغيرها التي لعبت أدوارا هامة في دعم القضايا العربية مثل الموقف التاريخي لاتحاد العمال العرب في قضية الباخرة كليوباترا , ولقد حرص جمال عبد الناصر على الالتقاء دوريا بهذه المنظمات الجماهيرية القومية واتخذها منبرا لإعلان كثير من مواقفه القومية الهامة كدعوته لقيام الحركة العربية الواحدة التي أطلقها في اجتماع المؤتمر العام لاتحاد المحامين العرب 1963 . كان أسلوب ثورة 23 يوليو في ممارسة دورها القومي بحد ذاته إسهاما كبيرا في مسيرة العمل القومي حيث اتخذ مستويين في التنفيذ فرضتهما الطبيعة المزدوجة لنظامها ؛ كونها دولة قطرية مركزية عليها التزامات تجاه كيانها ونظامها وتجاه بقية الدول العربية وتجاه بقية دول العالم محكومة بالقواعد الدولية المقيدة من جهة , وكونها ثورة ذات رسالة قومية تسعى إلى تغيير الواقع العربي بما في ذلك محاربة الأنظمة المعيقة لهذا التغيير من جهة أخرى . ولكن هذا الأسلوب في كلا مستوييه كان يصدر عن استراتيجية واحدة هي الالتزام بالأهداف القومية العليا وفتح الطريق لتحقيقها , وفي كل الأحوال مصلحة الأمة العربية الراهنة والمستقبلية .. وإن كان يحدث أحيانا بعض التداخل أو التضارب أو التجاوز في عمل الأجهزة المنفذة هنا أو هناك . 1- فعلى مستوى الدولة : كانت الحركة تتم تحت شعار وحدة الصف العربي وتنطلق من الاستفادة من مؤسسات العمل العربي المشترك الموروثة كالجامعة العربية وأجهزتها حيث كان لمصر الناصرية دور بارز في تطويرها إلى أقصى حد ممكن يتجاوز دورها المرسوم بالأصل لتكريس الدول القطرية إلى التعاون بما يخدم القضايا العربية ولاسيما في مجال الصراع العربي الإسرائيلي , فكانت وراء استحداث مؤتمرات القمة كأعلى مستوى لاتخاذ القرار , وكانت وراء إنشاء منظمة التحرير الفلسطينية لتمثيل شعب فلسطين في المحافل الدولية وإحباط المحاولات التي كانت تجري لطمس اسم فلسطين من قبل الصهيونية والقوى الاستعمارية . ولقد كان لهذا التحرك دوره البارز بعد عدوان 1967 ولاسيما في مؤتمر الخرطوم حيث ألزمت الدول العربية بتقديم الدعم المادي لدول المواجهة – مصر الثورة أساسا – في مواجهة العدو الصهيوني , وحيث أقرت اللاءات الشهيرة ( لاصلح ولا تفاوض ولا اعتراف باسرائيل ) كخطوط حمراء لا يتم تجاوزها . 2- مستوى التحرك الثوري : وهو المستوى الاستراتيجي والأهم , وكان يجري تحت شعار وحدة الهدف , وابتدأ بدعم كل الحركات العربية الثورية والقومية والتعاون معها كما رأينا , وانتقل إلى درجة أعلى بالدعوة إلى وحدة القوى الثورية ضمن حركة عربية واحدة تكون أداة النضال العربي في تحقيق أهدافه , ثم بدأت ترجمة هذا التوجه بإعداد جيل ثوري قومي من خلال معسكرات للشباب العربي ودورات وبرامج حوارية وتثقيفية يتم من خلالها فرز نويات طليعية من كل الأقطار العربية تتحرك في ساحاتها وبين قواعدها الشعبية من أجل إقامة هذه الحركة المنشودة . وفي اكتوبر 1965 تم تكليف أمين الشؤون العربية في الاتحاد الاشتراكي ورئاسة الجمهورية لتجسيد هذه الحركة في تنظيم قومي يبنى بتؤدة وعناية من خلال الطلائع العربية الشابة التي صقلت في معارك النضال القومي في ساحاتها , ولقد أثرت نكسة يونيو 1967 على وتيرة بناء هذا التنظيم ولكنه استطاع تحقيق لقاءه القومي الأول بما فيها مشاركة الأمين المساعد للتنظيم الطليعي في مصر في خريف عام 1969 , إلا أن الضربة الأليمة التي هزته فيما هزت من مؤسسات ثورة يوليو كانت انقلاب مايو 1971 التي قطعت مسيرة هذه الثورة الرائدة في قلب الأمة العربية وكانت بداية الإنهيار الكبير الذي لانزال نعيش تداعياته . لقد مثلت ثورة 23 يوليو بقيادة جمال عبد الناصر نقلة استراتيجية هائلة في حركة النضال القومي العربي , ولقد تحققت هذه النقلة النوعية من خلال الإنجازات الأساسية التالية : 1- حسم عروبة مصر وتصحيح المعادلة المختلة التي كانت سائدة ( عروبة بلا مصر , ومصر بلا عروبة ! ) 2- وفرت للدعوة القومية وحركتها اقليمها القاعدي المطلوب والمفتقد . 3- وفرت للحركة القومية القيادة التاريخية المؤهلة للزعامة والتي استقطبت الأغلبية الساحقة من الجماهير العربية على امتداد الوطن العربي بأسره . 4- نقلت الدعوة القومية من مجال النخبة الضيق لتصبح مطلبا جماهيريا بطول الوطن العربي وعرضه. 5- أعطت للقومية العربية مضامينها الاجتماعية والتحررية بعد أن كانت دعوة مثالية مجردة , وربطتها ببقية أهداف النضال العربي ربطا جدليا . 6- بينت العلاقة الجدلية التكاملية بين العروبة والإسلام بعد أن كانا موضع تضاد من قبل القوى التي كانت ترفع راياتهما . 7- نقلت القومية العربية من المجال النظري المجرد إلى حيز التطبيق العملي من خلال التجارب الوحدوية التي أنجزت والمعارك التي خيضت بغض النظر عن النجاح أو الفشل . والآن , وبعد مرور هذا الوقت الطويل على رحيل هذا القائد العظيم والانقلاب على نظامه الثوري في قلب الأمة العربية مصر , وتردي الوضع العربي إلى هذا الدرك الذي نحن فيه ؛ نقف ونحن نعالج هذا الجانب الهام من ثورة 23 يوليو لأخذ الدروس والعبر , ولنعاين ماذا تبقى لدينا في هذا المجال فنجد أنه لايزال لدينا الكثير الهام الذي نستطيع أن نبني عليه : 1- لدينا ما بلورته ثورة 23 يوليو من فكر قومي متقدم ومتكامل يحدد الأهداف ووسائل التحقيق , ولاتضيره المراجعة الواجبة لتخليصه من جوانب القصور التي شابته ولإضافة ما يتلاءم مع المعطيات التي أفرزتها التطورات التي حصلت بعد انقطاع تلك المسيرة الثورية . 2- ولدينا حركة ناصرية واسعة – بغض النظر عن تشتتها – وكوادر طليعية منتشرة في كل أنحاء الوطن العربي , تستطيع بوحدتها وتطهيرها من الأدران التي علقت بها وانفتاحها على بقية القوى أن تكون أساسا لحركة عربية جديدة تواصل ما انقطع و وتواجه ما استجد , وتستأنف النضال من أجل أهداف الأمة . 3- ولدينا تراث من التجارب التطبيقية نستطيع استخلاص دروسها في أسلوب التحرك : - سواء على مستوى وحدة الهدف ( التنظيم القومي ووحدة القوى الثورية ) . - أو على مستوى وحدة الصف ( التحالفات مع بقية القوى العربية ) . 4- ولدينا أخيرا العزم الأكيد على استكمال مسيرة الثورة العربية حتى تحقيق غاياتها بإذن الله .
من المؤكد أن جمال عبد الناصر – وهو يفجر ثورة 23 يوليو 1952 ويقود مسيرتها – لم يخترع مقولة اسمها " القومية العربية " ولا ابتدع كيانا اسمه " الأمة العربية " ولا اصطنع شيئا يسمى " عروبة مصر " وانتماءها لحضارة وثقافة تحمل اسم الحضارة العربية الإسلامية , فكل هذه الأمور كانت موجودة حتى ولو بشكل غير فعال أو منقوص أو في تضاد مع بعضها يعطلها ؛ فلقد كانت هناك عروبة مبهمة بلا قاعدة دون مصر , وكانت هناك مصر حائرة بلا هوية دون عروبة . ولكن عظمة هذا القائد التاريخي وثورته الكبرى أنه وضعها جميعا على الطريق الصحيح تاريخيا وموضوعيا ؛ فأعاد ترتيبها بحيث تتكامل وتتعاظم تأثيرا , وأعطاها مضامينها الحقيقية وربطها ببقية أبعاد النضال الأخرى , وبذلك أصبحت الناصرية هي محتوى القومية العربية الأكثر تقدما واستراتيجيتها الأكثر فعالية لبلوغ أهدافها . والحقيقة أن هذا لم يأت اعتباطا ولا صدفة وإنما في سياق عملية تاريخية تضرب في أعماق الزمن العربي وتتفاعل تحت السطح في المنطقة حتى جاءت الشرارة المطلوبة ( ثورة يوليو ) في مركز الثقل والموقع الصحيح ( مصر ) وبوجود القيادة التاريخية المؤهلة ( جمال عبدالناصر ) كما سنرى ونحن نحلل هذا السياق ونستوعب كيف تطور البعد القومي لهذه الثورة : من تغيير حدث في مصر ورفع أهدافا ستة مطلوبة في مصر نفسها لتصبح بعد حين الثورة الأم للثورة العربية والقاعدة الأساس لحركة القومية العربية ونضالها لتحقيق أهدافها المتكاملة والمتفاعلة ( الحرية والاشتراكية والوحدة ) . وبدون أن ندخل في تفاصيل نظرية ليس هنا مكانها ننطلق من حقيقة لم تعد بحاجة إلى إثبات وهي أن القومية العربية هي في جوهرها تعبير عن وجود وتجسيد انتماء تمثله وتعيشه الجماعة البشرية المتواجدة فوق رقعة جغرافية بعينها من جنوب غربي آسيا إلى أقصى الشمال الغربي من أفريقيا , وهي أيضا الجماعة التي اكتمل نموها وتبلور تكوينها عبر نهر تاريخ المنطقة مزودا بروافد ثرية شتى من الحضارات القديمة العريقة من مصر إلى الشام ومن العراق واليمن إلى شمال أفريقيا والمغرب الأقصى .. ثم اكتمل هذا التكوين القومي بانبلاج فجر الإسلام متميزا بخاصة فريدة بين العقائد السماوية تتمثل في العربية – لغة القرآن الكريم الذي لم يهب هذه الجماعة لسانها المعبر وحسب بل هيأ لها أيضا منظومة من القيم الروحية السامية , أذكت بين جوانح أبنائها الشوق للتطور والإبداع وأمدتها بطاقة لا تنفد من الاستنارة والرشد مما كفل لها سبل الانفتاح على حضارات الأمم التي سبقت كي تنهل من أفضل ينابيعها وتترجم عن ألسنتها , وشارك في هذا الجهد العلمي النهضوي أجيال مستنيرة من أبناء الديانات الأخرى في إطار من أخوة التسامح وجلال العلم وإرادة التجديد . وفي سياق هذا التفاعل التاريخي الممتد عبر العصور لعبت مصر – باعتبارها الاقليم المركزي في هذه المنطقة والكتلة المتماسكة منذ فجر التاريخ – دورا أساسيا في بناء هذا الجسم القومي والحفاظ عليه , فكانت فعلا كما وصفها الرسول الكريم الكنانة التي تلم الأسهم العربية وتمنعها من التشتت . .
1- فلقد كانت الجسر والقاعدة الذي امتد منهما الكيان العربي الاسلامي إلى جناحه الغربي في شمال أفريقيا وظل يشده إليه .
2- كانت دائما خط الدفاع الأخير عنه ضد الأخطار المصيرية التي تهدد بفنائه , وتجلى ذلك في أكثر من شاهد تاريخي : - فالزحف المغولي الذي تساقطت أمامه القلاع العربية المشرقية وبدا أنه لاراد له , لم ينكسر إلا على صخرة جيش مصر بقيادة قطز في معركة عين جالوت على أرض فلسطين . - والغزوات الصليبية التي امتدت قرنين من الزمان لم تنحسر إلا في معركة حطين بعد استعادة مصر إلى موقعها الأساسي في الجسم العربي على يد صلاح الدين .
3- كانت مهد محاولة النهضة العربية الأولىالتي تمت على يد محمد علي ومشروع ابنه ابراهيم باشا لتوحيد المنطقة العربية بعد الليل العثماني الطويل وتكالب القوى الاستعمارية الغربية لاقتسامها .
4- كانت الملجأ الطبيعي الذي حضن أفواج المفكرين السياسيين والدعاة الدينيين والصحفيين الأحرار من مشرق الوطن العربي ومغربه الذين هاجروا إليها ولاذوا بشعبها من الطغيان العثماني ومن بعده الأوروبي في القرن التاسع عشر والنصف الأول من القرن العشرين , وتفاعلوا بشكل رائع وخلاق مع نظرائهم وتلاميذهم في مصر سواء ممن تخرجوا من الأزهر الشريف أو ممن عادوا من بعثاتهم في أوروبا .
وكان أن أصبحت مصر – موضوعيا – ومع فجر القرن العشرين منبرا للفكر العربي ومسرحا لفنونه وموئلا لكل أحرار العرب من وراء الحدود التي رسمها الاستعمار الأجنبي . ولكن مصر ورغم ذلك كله كانت مطلع القرن العشرين ونصفه الأول في غفلة عن دورها المطلوب , ملهية بنفسها وصراعها مع الاحتلال الإنجليزي عن إيجاد صياغة جدلية – كدأبها تاريخيا – تجمع النضالات العربية التي تفرقت في تلك الفترة إلى اتجاهين رئيسيين : - ففي مواجهة مخطط الفرنسة في المغرب الكبير تمسك أبناؤه بلإسلام .. دينا وثقافة ولغة وتعاليم كقوة دافعة ضد مشاريع الاحتلال والاستيطان . - وفي مواجهة الهجمة الطورانية رفع أبناء المشرق العربي – مسلمين ومسيحيين – لواء القومية العربية للتمايز عن المحتل التركي المسلم والتخلص من نيره . ولا يزال لهذا التوزع آثاره السلبية حتى الآن فيما نشهده من محاولات مفتعلة لوضع العروبة في تناقض مع الإسلام .
بينما كان ساطع الحصري – رائد الدعوة القومية العربية منذ الربع الأول من القرن العشرين – يكتب في عشرينات وثلاثينات ذلك القرن داعيا مصر إلى الاضطلاع بدورها التاريخي في قيادة مسيرة النضال العربي نحو التحرر والوحدة , كانت طلائع الوعي القومي تنمو وتنضج في نفس فتى من صعيد مصر هو جمال عبدالناصر , ابتداء من مشاركته كطالب في المظاهرات الداعية إلى إسقاط وعد بلفور بوصفه أول حلقات مشروع الاستيطان الاستعماري الصهيوني في قلب الأرض العربية , وليس انتهاء بمشاركته كضابط شاب في معارك فلسطين عام 1948-1949 حيث التحم الوعي السياسي بالتجربة النضالية على أرض الواقع , وحيث عاد بدرس مستفاد من معارك فلسطين عبرت عنه كلمات سجلها في كتاب ( فلسفة الثورة ) حين قال : " ولما انتهت المعارك وعدت إلى أرض الوطن , كانت المنطقة العربية في تصوري قد أصبحت كلا واحدا " . لقد تداخلت عوامل شتى في التكوين الفكري لجمال عبد الناصر .. منها الوعي بمأساة فلسطين إلى خوض تجربة الحياة والموت على أرضها , ومنها دراسة وتدريس تاريخ الحملات العسكرية على مصر والمشرق العربي في كلية أركان الحرب , فضلا عن المتابعة الميدانية من جانب الضابط الشاب ورفاقه للمشهد السياسي الداخلي في مصر الذي تجلى على مسرحه طغيان القصر الملكي وصراعات الساسة والأحزاب التقليدية والدعوات الانعزالية التي كانت تحاول شد مصر إما إلى التقوقع حول ماض سحيق ( الدعوة الفرعونية ) أو إلى الانتماء للخارج الأجنبي الغريب عنها لغة وثقافة ودينا ( حضارة البحر المتوسط ) . وكان أن تشابكت وتفاعلت تلك العوامل في مجموعها ليتشكل منها المنظور الذي أطلت منه القيادة التاريخية بعين التأمل الواعي وقدرة الفعل السؤول , على ما آلت إليه أحوال الأمة العربية صبيحة يوم الثورة في 23 يوليو 1952 .
لقد كان الوضع العربي قد بلغ ذروة الأزمة عشية ذلك اليوم الفاصل , فلقد كانت الأمة قد تم تمزيقها إلى أشلاء متناثرة وتم احتلال معظم أجزائها ؛ فالمغرب العربي يرزح بكامله تحت نير الاستعمار الفرنسي والاسباني , وليبيا تحت الاحتلال الإيطالي , ومصر والعراق والخليج وجنوب اليمن تحت الحماية أو الاحتلال الانجليزي , وفلسطين تم اغتصابها وإقامة الكيان الصهيوني فيها , وما لم يحتل كان يغط في سبات القرون الوسطى . أما الأقطار التي بدأت بالحصول على استقلالها فكانت ضعيفة عاجزة أمام مهام التنمية وضغط الحركات القومية التي رفعت شعار الوحدة والتحرر مع أنها كانت غضة العود ومحصورة في المشرق العربي وبشكل أساسي في بلاد الشام , ولكن التوق إلى الوحدة كان يعتمل كالجمر تحت الرماد ويقلق الدول الاستعمارية والأنظمة الوليدة المرتبطة بها بدرجة أو بأخرى ؛ فكان أن تم إنشاء الجامعة العربية – بجهد من بريطانيا أساسا – لتهدئة الخواطر ولتنسيق الجهد الإقليمي العربي بما يحافظ على استقرار وضع الدول العربية على ما هو عليه . وجاءت هزيمة 1948 أمام العصابات الصهيونية لتكشف عورة النظام الإقليمي العربي وهشاشة أنظمته , وبدأت ردود الفعل الأولى بالانقلابات العسكرية المتتالية في المشرق العربي ( سوريا أساسا ) دون أن يتغير من الأمر شيئا .. إلى أن جاءت حركة الضباط الأحرار بقيادة جمال عبد الناصر لتفتح الطريق أمام الفعل الحقيقي الذي طال انتظاره . من المفارقة أن ما بدا من إغفال لمسألة الوحدة العربية في الأهداف التي رفعتها الثورة غداة قيامها وتركيزها على إصلاح وضع مصر الداخلي وتأمينه , كان هو المنطلق الحقيقي والواقعي للبعد القومي لثورة 23 يوليو لأنه هيأ الأساس الموضوعي لعودة مصر إلى عروبتها وإلى دورها المطلوب باعتبارها قلب الوطن العربي ومركز ثقله ؛ أو بعبارة أخرى الإقليم القاعدة الذي يشد بقية الأجزاء إليه . وعليه , فلم تمض على الثورة شهور حتى أصدر عبد الناصر وثيقته الفكرية الأولى ( فلسفة الثورة ) التي بلور فيها بأوضح وأبلغ العبارات هذا الدور الذي لايمكن تجاهله ولا النكوص عنه . وفي الذكرى الأولى للثورة كلف عبد الناصر فتحي الديب – الجندي القومي المجهول – بتأسيس صوت العرب ليكون صوت الدعوة القومية العربية من مصر , وملتقى الثوار العرب ووسيلتهم لإيصال صوتهم إلى كل أصقاع الأرض العربية متخطين كل الحواجز التي كانت القوى المستعمرة والرجعية تحاول منعهم بها , وكان لذلك أثر عظيم في تحريض الجماهير العربية وتعبئتها ونجاح كثير من الحركات الثورية . ومن منطلق هذه المسؤولية القومية حاربت الثورة الأحلاف الاستعمارية التي كانت تريد إبقاء المنطقة تحت نفوذها وخرجت من هذه المعركة ظافرة حيث وأدت حلف بغداد في مهده وما لبث أحرار العراق أن أطاحوا في ثورة 14 تموز ( يوليو 1958 ) بالنظام الملكي العميل في بغداد ذاتها . كما جندت ثورة يوليو كل إمكاناتها لنصرة ثورة الجزائر التي انطلقت في 1 نوفمبر1954 لمحاربة الاستعمار الفرنسي والتي ماكان لها أن تنتصر ذلك الانتصار المجيد لولا هذا الإسهام الفعال والمساندة التامة . وبالطبع لم يكن هذا مفصولا عن مساندة عموم الحركة الناشطة لتحرير أقطار المغرب العربي كله كما هو معروف . كما ساندت وساهمت في الثورة ضد الاستعمار الانجليزي في جنوب اليمن وعمان والخليج العربي حتى حمل عصاه ورحل فعلا واستقلت هذه الأقطار . وقبل هذا وذاك تبنت ثورة يوليو ثورة الشعب الفلسطيني ضد الغاصب الصهيوني وحضنت مقاومته وقدمت لها كل دعم من تدريب وسلاح ومعسكرات ومحطات إذاعة وجندت لخدمة القضية الفلسطينية إعلامها وديبلوماسيتها وكل نفوذها الدولي . ولقد كان هذا النشاط الثوري الذي لم يكل ولم يهدأ السبب المباشر للعدوان الثلاثي عام 1956 الذي شنته انجلترا وفرنسا واسرائيل لإخماد شعلة الثورة العربية التي انطلقت من القاهرة . ولكن هذا العدوان واندحاره كان اللمسة الأخيرة الحاسمة التي أوصلت المد القومي إلى أوجه , فتلاحمت الجماهير العربية وطلائعها وحركاتها القومية بثورة 23 يوليو وأصبح عبد الناصر زعيم الأمة وقائد ثورتها ورمز عروبتها . وكانت أولى ثمار هذا المد العظيم تحقق أول وحدة في تاريخ العرب الحديث بين مصر وسوريا في 22 فبراير 1958 . وبقدر تعاظم هذا الدور القومي , تكالبت القوى الاستعمارية واستطاعت فعلا إحداث نكسات مؤلمة في مسيرة النضال العربي تحت القيادة الناصرية .. فكان نجاح مؤامرة انفصال سوريا عن دولة الوحدة التي تشاركت في نسجها الدول الاستعمارية المتضررة من البركان الثوري الذي أطلقته ثورة يوليو في المنطقة العربية والدول الرجعية الخائفة على عروشها بعد أن سحب جمال عبد الناصر منها ولاء شعوبها والقوى الإقطاعية والرأسمالية في سوريا التي استشعرت الخطر على مصالحها بعد قرارات يوليو الاشتراكية عام 1961 والأغرب من هذا قوى اليسار التقليدي التي كانت تنظر إلى الثورة وإنجازاتها بعين الريبة والتشكيك وأيضا بعض القوى القومية التي كانت قد انسحبت من دولة الوحدة وأعماها خلافها معها عن رؤية أن الذي طعن هو هدف الوحدة الذي هو مبرر وجودها أصلا . ولكن رد الثورة وقائدها كان التمسك باسم الجمهورية العربية المتحدة كرمز للوحدة والتحدي , وتعميق خط الثورة السياسي والاجتماعي بإصدار ميثاق العمل الوطني كنظرية عمل تسترشد بها الثورة وجماهيرها في مسيرتها الصاعدة , وكان دعم ثورة اليمن في شطره الشمالي للتخلص من نظام الإمامة المتخلف وفي شطره الجنوبي حتى تحرر من ربقة الاستعمار البريطاني , وكانت استجابته لمشروع الوحدة الثلاثية بين مصر وسوريا والعراق عام 1963 رغم تجربته السلبية مع تلك القوى التي كانت تحكم القطرين المذكورين آنذاك ؛ فلما انهار ذلك المشروع الوحدوي بسبب ذات المواقف التي ساهمت سابقا في انهيار الوحدة الرائدة من قبل تلك القوى ذاتها , طرح عبد الناصر الحركة العربية الواحدة كطريق لتحقيق الوحدة العربية . وكانت نكسة يونيو 1967 أخطر تلك الضربات التي حاولت كسر الثورة الناصرية وإسقاطها أوعلى الأقل حصرها داخل مصر , ولكن عبد الناصر , وهو يعيد بناء جيشه لمعركة التحرير ويخوض حرب الاستنزاف المجيدة , ظل يؤكد على قومية المعركة ويسعى لبناء الجبهة الشرقية ضد العدو الصهيوني , وظل ينادي القدس قبل سيناء , وظل يحرض المقاومة الفلسطينية على رفض ما يضطر لقبوله لأسباب تكتيكية , وعندما شرع النظام الأردني بالبطش بها في أيلول الأسود 1970 نهض لنصرتها وإنقاذها رغم إسفافها في الهجوم عليه , ولفظ أنفاسه الأخيرة شهيد فلسطين والقضية القومية . ولم يقتصر هذا الدور القومي لثورة 23 يوليو على هذه المعارك المباشرة والتعبئة الإعلامية وإنما نهضت لتساهم في دفع عجلة التنمية والتقدم في كل الأقطار العربية إيمانا منها بوجوب بناء قاعدة تحتية متينة تكون الأساس الصلب الذي ينهض عليه صرح الوحدة العربية , فأرسلت البعثات التعليمية من كل المستويات والخبراء في كل الميادين إلى الجزائر واليمن والخليج العربي وإلى كل قطر عربي يحتاج إلى مثل تلك الخدمات , وفتحت جامعاتها للطلبة العرب من كل مكان وبلا حدود , ودربت الضباط العرب في كلياتها العسكرية , ووضعت خبراتها الإعلامية والعلمية والإدارية بتصرف أي قطر عربي يطلبها . كما عملت على تنشيط وإنشاء منظمات المجتمع المدني العربية القومية كالاتحادات المهنية والنقابية العربية كاتحاد المحامين العرب واتحاد الصحفيين العرب والاتحاد الدولي للعمال العرب وغيرها التي لعبت أدوارا هامة في دعم القضايا العربية مثل الموقف التاريخي لاتحاد العمال العرب في قضية الباخرة كليوباترا , ولقد حرص جمال عبد الناصر على الالتقاء دوريا بهذه المنظمات الجماهيرية القومية واتخذها منبرا لإعلان كثير من مواقفه القومية الهامة كدعوته لقيام الحركة العربية الواحدة التي أطلقها في اجتماع المؤتمر العام لاتحاد المحامين العرب 1963 . كان أسلوب ثورة 23 يوليو في ممارسة دورها القومي بحد ذاته إسهاما كبيرا في مسيرة العمل القومي حيث اتخذ مستويين في التنفيذ فرضتهما الطبيعة المزدوجة لنظامها ؛ كونها دولة قطرية مركزية عليها التزامات تجاه كيانها ونظامها وتجاه بقية الدول العربية وتجاه بقية دول العالم محكومة بالقواعد الدولية المقيدة من جهة , وكونها ثورة ذات رسالة قومية تسعى إلى تغيير الواقع العربي بما في ذلك محاربة الأنظمة المعيقة لهذا التغيير من جهة أخرى . ولكن هذا الأسلوب في كلا مستوييه كان يصدر عن استراتيجية واحدة هي الالتزام بالأهداف القومية العليا وفتح الطريق لتحقيقها , وفي كل الأحوال مصلحة الأمة العربية الراهنة والمستقبلية .. وإن كان يحدث أحيانا بعض التداخل أو التضارب أو التجاوز في عمل الأجهزة المنفذة هنا أو هناك . 1- فعلى مستوى الدولة : كانت الحركة تتم تحت شعار وحدة الصف العربي وتنطلق من الاستفادة من مؤسسات العمل العربي المشترك الموروثة كالجامعة العربية وأجهزتها حيث كان لمصر الناصرية دور بارز في تطويرها إلى أقصى حد ممكن يتجاوز دورها المرسوم بالأصل لتكريس الدول القطرية إلى التعاون بما يخدم القضايا العربية ولاسيما في مجال الصراع العربي الإسرائيلي , فكانت وراء استحداث مؤتمرات القمة كأعلى مستوى لاتخاذ القرار , وكانت وراء إنشاء منظمة التحرير الفلسطينية لتمثيل شعب فلسطين في المحافل الدولية وإحباط المحاولات التي كانت تجري لطمس اسم فلسطين من قبل الصهيونية والقوى الاستعمارية . ولقد كان لهذا التحرك دوره البارز بعد عدوان 1967 ولاسيما في مؤتمر الخرطوم حيث ألزمت الدول العربية بتقديم الدعم المادي لدول المواجهة – مصر الثورة أساسا – في مواجهة العدو الصهيوني , وحيث أقرت اللاءات الشهيرة ( لاصلح ولا تفاوض ولا اعتراف باسرائيل ) كخطوط حمراء لا يتم تجاوزها . 2- مستوى التحرك الثوري : وهو المستوى الاستراتيجي والأهم , وكان يجري تحت شعار وحدة الهدف , وابتدأ بدعم كل الحركات العربية الثورية والقومية والتعاون معها كما رأينا , وانتقل إلى درجة أعلى بالدعوة إلى وحدة القوى الثورية ضمن حركة عربية واحدة تكون أداة النضال العربي في تحقيق أهدافه , ثم بدأت ترجمة هذا التوجه بإعداد جيل ثوري قومي من خلال معسكرات للشباب العربي ودورات وبرامج حوارية وتثقيفية يتم من خلالها فرز نويات طليعية من كل الأقطار العربية تتحرك في ساحاتها وبين قواعدها الشعبية من أجل إقامة هذه الحركة المنشودة . وفي اكتوبر 1965 تم تكليف أمين الشؤون العربية في الاتحاد الاشتراكي ورئاسة الجمهورية لتجسيد هذه الحركة في تنظيم قومي يبنى بتؤدة وعناية من خلال الطلائع العربية الشابة التي صقلت في معارك النضال القومي في ساحاتها , ولقد أثرت نكسة يونيو 1967 على وتيرة بناء هذا التنظيم ولكنه استطاع تحقيق لقاءه القومي الأول بما فيها مشاركة الأمين المساعد للتنظيم الطليعي في مصر في خريف عام 1969 , إلا أن الضربة الأليمة التي هزته فيما هزت من مؤسسات ثورة يوليو كانت انقلاب مايو 1971 التي قطعت مسيرة هذه الثورة الرائدة في قلب الأمة العربية وكانت بداية الإنهيار الكبير الذي لانزال نعيش تداعياته . لقد مثلت ثورة 23 يوليو بقيادة جمال عبد الناصر نقلة استراتيجية هائلة في حركة النضال القومي العربي , ولقد تحققت هذه النقلة النوعية من خلال الإنجازات الأساسية التالية : 1- حسم عروبة مصر وتصحيح المعادلة المختلة التي كانت سائدة ( عروبة بلا مصر , ومصر بلا عروبة ! ) 2- وفرت للدعوة القومية وحركتها اقليمها القاعدي المطلوب والمفتقد . 3- وفرت للحركة القومية القيادة التاريخية المؤهلة للزعامة والتي استقطبت الأغلبية الساحقة من الجماهير العربية على امتداد الوطن العربي بأسره . 4- نقلت الدعوة القومية من مجال النخبة الضيق لتصبح مطلبا جماهيريا بطول الوطن العربي وعرضه. 5- أعطت للقومية العربية مضامينها الاجتماعية والتحررية بعد أن كانت دعوة مثالية مجردة , وربطتها ببقية أهداف النضال العربي ربطا جدليا . 6- بينت العلاقة الجدلية التكاملية بين العروبة والإسلام بعد أن كانا موضع تضاد من قبل القوى التي كانت ترفع راياتهما . 7- نقلت القومية العربية من المجال النظري المجرد إلى حيز التطبيق العملي من خلال التجارب الوحدوية التي أنجزت والمعارك التي خيضت بغض النظر عن النجاح أو الفشل . والآن , وبعد مرور هذا الوقت الطويل على رحيل هذا القائد العظيم والانقلاب على نظامه الثوري في قلب الأمة العربية مصر , وتردي الوضع العربي إلى هذا الدرك الذي نحن فيه ؛ نقف ونحن نعالج هذا الجانب الهام من ثورة 23 يوليو لأخذ الدروس والعبر , ولنعاين ماذا تبقى لدينا في هذا المجال فنجد أنه لايزال لدينا الكثير الهام الذي نستطيع أن نبني عليه : 1- لدينا ما بلورته ثورة 23 يوليو من فكر قومي متقدم ومتكامل يحدد الأهداف ووسائل التحقيق , ولاتضيره المراجعة الواجبة لتخليصه من جوانب القصور التي شابته ولإضافة ما يتلاءم مع المعطيات التي أفرزتها التطورات التي حصلت بعد انقطاع تلك المسيرة الثورية . 2- ولدينا حركة ناصرية واسعة – بغض النظر عن تشتتها – وكوادر طليعية منتشرة في كل أنحاء الوطن العربي , تستطيع بوحدتها وتطهيرها من الأدران التي علقت بها وانفتاحها على بقية القوى أن تكون أساسا لحركة عربية جديدة تواصل ما انقطع و وتواجه ما استجد , وتستأنف النضال من أجل أهداف الأمة . 3- ولدينا تراث من التجارب التطبيقية نستطيع استخلاص دروسها في أسلوب التحرك : - سواء على مستوى وحدة الهدف ( التنظيم القومي ووحدة القوى الثورية ) . - أو على مستوى وحدة الصف ( التحالفات مع بقية القوى العربية ) . 4- ولدينا أخيرا العزم الأكيد على استكمال مسيرة الثورة العربية حتى تحقيق غاياتها بإذن الله .
0 comments:
إرسال تعليق