الأربعاء، 18 يوليو 2012

هل السيناريو الدائر… دولة علوية في سورية؟

تشكل أعمال القتل الوحشية الراهنة والاعتداءات الجنسية والتعذيب والاعتقالات العشوائية والتفجيرات المستهدفة وتدمير الأحياء، وما ينتج عن ذلك من تهجير وترحيل وتنقل السكان، عمليات تهدف إلى ضمان صمود الجماعة العلوية في سورية مستقبلاً.

ينظر عدد كبير من محللي شؤون الشرق الأوسط إلى سورية من منظار واحد: إنها دولة مضطربة تحتاج إلى تغيير النظام، لكن تشير الأحداث الأخيرة إلى الحاجة إلى نشوء معيار جديد يعترف بأن مساعي العلويين لضمان صمود طائفتهم قد تمنع صمود الدولة السورية الراهنة.
يصف عدد قليل من المعلقين مجازر الحولة، التي وقعت في مايو 2012، بـ”نقطة التحول” في الانتفاضات القائمة منذ 16 شهراً في سورية، بل إنهم يهتفون بأن الوضع السوري يشبه أحداث سيربرينيتسا، ويتذكرون المذبحة التي شهدتها البوسنة في عام 1995.


ودعا البعض إلى تصعيد الضغوط الدولية التي تتراوح بين فرض عقوبات هائلة ضد النظام العلوي بقيادة بشار الأسد، وتعزيز عزلة نظامه، ونشر قوات ميدانية لدعم المعارضة المسلحة، وإنشاء “ملاجئ آمنة” للمدنيين، لكن استمرت أعمال القتل الوحشية، وأصر الأسد على تجاهل التنديدات الدولية، ولم يتغير الوضع الميداني في سورية باستثناء تعالي أصوات المنددين بوحشية النظام. بل يبدو أن الأسد صعد حجم المجازفة التي يأخذها حين أقدم في شهر يونيو الماضي على إسقاط طائرة عسكرية تركية يُفترض أنها اخترقت الأجواء السورية. لكن قوبل هذا الحدث أيضاً، إلى جانب أنباء عن حدوث مجازر جديدة في منطقة دوما في دمشق، بصمت دولي مطبق ورضوخ تركي غير معهود.

عُقد حديثاً مؤتمر جنيف الاستعراضي وانطلقت قبله حملة لطرد الدبلوماسيين السوريين من أبرز البلدان الغربية (رغم تردد إدارة أوباما). لكن بقيت تلك الخطوات روتينية وخجولة وغير فاعلة. بعيداً عن أعمال القتل وإدانة العالم لما يحصل وتعنت النظام السوري، برزت طريقة لتفسير جنون الأسد لكن قلة من المراقبين تجرأت على تحليل الأفكار الآتية: ما يحرك الأسد هو المخاوف من انهيار طائفته، ووضع جماعته العلوية في مأزق حرج؛ إن خطاب المجتمع الدولي والمعارضة السورية بشأن وحدة سورية والاستقامة الوطنية هو آخر ما يفكر فيه النظام؛ ربما فات الأوان في هذه المرحلة على تنازل العلويين عن الحكم والاستسلام للآخرين في سورية مستقبلاً؛ انهارت الافتراضات بشأن الشكل الراهن للدولة السورية بشكل لا يمكن إصلاحه؛ سيفضل العلويون تفكيك جمهوريتهم القائمة، والانسحاب إلى معاقلهم في الجبال بدل تقاسم السلطة مع غالبية عربية سنية غير مستعدة للتعامل بطريقة ديمقراطية ومتفهمة مع حكام البلد السابقين.

البنية السورية

عدا التحليلات التي نُشرت في مجلة “ناشيونال إنترست” خلال عام 2011 وبداية عام 2012، يبدو أن معظم المحللين والدبلوماسيين وصانعي السياسة المعنيين بالشؤون السورية يصرون على إطلاق استنتاجات معينة عن البلد، مثل فكرة أن سورية تشكل كياناً جامعاً وموحداً سيبقى على حاله بأي ثمن، وبغض النظر عن نتيجة الانتفاضة الراهنة، وستحكمها سلالة واحدة تتمسك بأيديولوجيا وثقافة سياسية موحدة. لكن أثبتت أحداث الأشهر الستة عشر الماضية ومجزرتا الحولة ودوما مؤخراً أن العلويين، مثل الطوائف والجماعات الإثنية الأخرى في سورية، لم يتجاوزوا بعد ولاءاتهم المناطقية والطائفية والقومية تمهيداً لإنشاء “وطن سوري” موحد. تاريخياً، لم تبرز أي رؤية مشابهة لهذه الفكرة عن وجود كيان سوري متجانس، وما من معطيات مهمة اليوم تبرر بقاء هذه البنية الظاهرية على حالها.


لا تعكس المجازر المريعة التي تجتاح أنحاء سورية مجرد تحركات طائفية أو أعمال قتل عشوائية وعمليات وحشية مضادة، بل إنها تحمل مؤشرات واضحة عن انتشار ظاهرة “التطهير الإثني” التي برزت في يوغوسلافيا خلال التسعينيات. كما حصل سابقاً في البلقان خلال القرن العشرين، لاشك في أن المجازر في سورية بحق المدنيين مقصودة ومدروسة ومنهجية، وهي تهدف إلى التخلص من أشخاص منتمين إلى جماعة إثنية معينة تتمركز في مناطق محددة من أجل تحويل تلك المنطقة إلى مكان متجانس على المستوى الإثني. لا تتوقف أوجه الشبه عند هذا الحد. كما حصل في البلقان، كانت منطقة سورية الجغرافية (التي تضم الجمهورية العربية السورية المضطربة اليوم) جزءاً من السلطنة العثمانية. لاتزال هذه المنطقة تُعتبر مفترق طرق وملجأ جبليا وعرا تقيم فيه عائلات وجماعات إثنية متعددة وحشود من الجماعات الدينية والطائفية (منهم الأكراد والأتراك والأرمن والعرب والشيعة والسنة والأرثوذوكس والدروز والسريان والعلويون والموارنة واليهود وغيرهم)، وتتعايش تلك الجماعات مع بعضها بصعوبة. ربما تختلف الظروف التي أدت إلى تقسيم دول البلقان إلى تشكيلات إثنية متعددة خلال القرن العشرين عن تلك المسؤولة عن أحداث سورية اليوم. لكن لا تختلف مكونات الوضع كثيراً: خليط إثني وديني ولغوي مضطرب يتم إجباره على التعايش تحت راية النزعة القومية الإلزامية المتجانسة.

حدود جديدة

تشكل أعمال القتل الوحشية الراهنة والاعتداءات الجنسية والتعذيب والاعتقالات العشوائية والتفجيرات المستهدفة وتدمير الأحياء، وما ينتج عن ذلك من تهجير وترحيل وتنقل السكان، عمليات تهدف إلى ضمان صمود الجماعة العلوية مستقبلاً، فضلاً عن فرض وقائع جديدة ميدانياً، وإنشاء حدود جديدة. بما أن العلويين لم يعودوا قادرين على الحكم باسم الوحدة العربية (وبالتالي الحفاظ على استقلاليتهم الإثنية والطائفية)، قد ينسحبون إلى الجبال التي تطل على المتوسط. تلك المنطقة هي عبارة عن ملاذ آمن يعتبره العلويون موطنهم منذ قرون، وكان الفرنسيون قد ساعدوهم على إنشائها وحمايتها باعتبارها “دولة إثنية” مستقلة خلال النصف الأول من القرن العشرين.

لن يكون الشعب ضمن هذه الدولة العلوية الجديدة متجانساً بأي شكل، لكن سيشكل العلويون فيها غالبية ساحقة تكون مستعدة لإثبات نفسها. على صعيد آخر، بقيت المناطق الساحلية المسيحية في معظمها، مثل طرطوس واللاذقية، “حيادية” طوال فترة الانتفاضة، وقد أعلنت ضمناً رضوخها للدولة التي يسيطر عليها العلويون. كذلك، تشكل المناطق العازلة في مصياف وقدموس شرقاً موطن طائفة إسماعيلية واسعة، وقد بقيت حتى الآن موالية للعلويين. حين نتوجه نحو الشمال الشرقي، وراء بلدة إدلب على الحدود السورية التركية، يبدو لنا أن الفرع السوري لحزب العمال الكردستاني بدأ يرسّخ أسس الحكم المستقل بدعمٍ من العلويين وتشجيعهم. صحيح أن تلك المنطقة العلوية المرتقبة تفتقر إلى الموارد الصناعية الكافية، لكنها تستفيد من بنى تحتية متطورة، كما أنها غنية بالمرتفعات الصالحة للزراعة والسهول الساحلية الخصبة وموارد المياه الفائضة التي تشكّل الموانئ السورية الوحيدة بمياه عميقة (في طرطوس واللاذقية). تضم المنطقة أيضاً مطاراً دولياً يساهم في أن تكون الدولة الناشئة مكتفية ذاتياً وقادرة على الدفاع عن نفسها.


في ما يخص سورية، سقطت جميع الأوهام الماضية. لم تعد بنية البلد الراهنة منطقية بالنسبة إلى جماعة نافذة غير مستعدة للعودة إلى زمن الخنوع. حان الوقت للتخلي عن الفكرة الشائعة عن سورية ومستقبلها، أي أن هذا البلد يشكّل كياناً ثقافياً وإثنياً موحداً. هذه الدعوة ليست وصفة شافية بل إنها تذكرنا بكل بساطة بأن النموذج الوطني المستقبلي يمكن إيجاده في الماضي السوري خلال أيام الحكم العثماني والانتداب الفرنسي، وأن سورية الموحدة والعالقة في إطار خارطة البلد الراهنة ليست مُنزلة أو مبنية على قانون الطبيعة. إنه عيب تاريخي بدأ في عام 1936، إذ لم تكن سورية التي نعرفها اليوم على المستويين السياسي والجغرافي موجودة قبل ذلك التاريخ. نظراً إلى هذه الوقائع، يجب أن يستكشف الدبلوماسيون وجميع الجهات المعنية بوضع سورية وبراحة شعبها جميع الحلول الممكنة للأزمة الراهنة، شرط ألا يقتصر الأمر على الحلول التي تمليها المعايير السائدة والميول الأيديولوجية المألوفة.

0 comments:

إرسال تعليق

 
تصميم وتنفيذ الادارة التنفيذية