الخميس، 5 يوليو 2012

الواقعية السياسية في روسيا: نظرة عميقة إلى تجارة الأسلحة مع سورية

مع مواصلة واشنطن والغرب إدانتهما بيع أسلحة روسية للنظام السوري واعتبار ذلك أمراً «مشيناً»، لم تغير موسكو رأيها لمثل هذه الضغوط الدبلوماسية والأخلاقية من الغرب، حتى عندما اعتبر الغربيون أن موسكو تساعد على قتل المدنيين السوريين.

كان أحد تجّار الأسلحة الروس يمرر بندقية هجومية مزودة بكاتم للصوت من طراز AK-104 إلى مسؤول من سورية، فوضع هذا الأخير السلاح على مستوى نظره ووجّهه نحو الجناح C3 من معرض الأسلحة في روسيا الذي ينعقد مرتين سنوياً. فقال التاجر: “إنه سلاح مثالي لعمليات قتال الشوارع المتلاحمة والملاحقات بين المنازل”. كان العقيد عصام إبراهيم السعدي، الملحق العسكري في السفارة السورية في موسكو، يترجم الكلام بين التجار والسوريين في البازار، وهو من رافق المسؤولين الثلاثة من دمشق للقيام ببعض التسوق العسكري. إنها فرصة نادرة بالنسبة إليهم. بعد أن غرق بلدهم في حرب أهلية، منعت معظم بلدان العالم التي تتاجر بالأسلحة بيع المعدات إلى النظام السوري؛ لذا يستمتع الموفدون بوقتهم في موسكو، فقد أمضوا أكثر من ساعة وهم يتحدثون مع مسؤول بيع أسلحة الكلاشينكوف أندريه فيشنياكوف، رئيس قسم التسويق في شركة “إيزماش” (Izhmash) التي ابتكرت أسلحة من طراز AK-47. ثم تجولوا بين أقسام أخرى منتشرة في أنحاء قاعدة جوكوفسكي الجوية العملاقة بالقرب من موسكو، وعاينوا دبابات وقاذفات صواريخ تعمل باللمس، وصواريخ “كروز”، ومدفعيات ثقيلة أخرى. تتمتع كل هذه المعدات ببريق آخاذ تحت أشعة الصيف مثلما هي الحال مع السيارات الرياضية عند رصها في صالات العرض، فجميع تلك المعدات معروضة للبيع لمن يشتري.

ردع الروس

أهلاً بكم في أبرز معرض للأسلحة في روسيا. يحمل هذا المعرض اسماً خادعاً، “منتدى التكنولوجيا في صناعة الآلات”، ولكنه فعلياً معرض عسكري خاص بالحكام الدكتاتوريين حول العالم وقد افتتحه الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في عام 2010. في الأسبوع الماضي، حضرت وفود من إيران وزيمبابوي والبحرين وباكستان وأوغندا ودول أخرى إلى المعرض، لكن كان الحضور السوري لافتاً ومثيراً للجدل. منذ فترة الخمسينيات، عندما أصبحت سورية واحدة من عملاء الاتحاد السوفياتي، تشتري دمشق معظم أسلحتها من روسيا فأصبحت أهم عميلة لها. خلال الأشهر الستة عشر الماضية، استعملت القوات السورية الموالية للرئيس بشار الأسد تلك الأسلحة لقمع الثورة المحلية بكل وحشية، وقد ارتفعت حصيلة القتلى حتى الآن إلى 14 ألف قتيل بمن فيهم آلاف النساء والأطفال. انضمت بقية دول العالم العربي إلى الغرب لإدانة تلك المجازر، لكن هذه المواقف لم تمنع استمرار تدفق الأسلحة الروسية، بل يبدو أن الكرملين مستعد للمخاطرة بعلاقاته مع أوروبا والولايات المتحدة من أجل الدفاع عن الأسد ومتابعة بيع الأسلحة له.

على المستوى الدبلوماسي، لا يمكن أن يقوم المسؤولون الغربيون المستاؤون بأي شيء لردع الروس، إذ تملك روسيا مقعداً دائماً في مجلس الأمن ولطالما استعملت حق النقض لإعاقة أي نقاش حول فرض حظر دولي على تمرير الأسلحة إلى سورية. في شهر مايو، اعتبرت السفيرة الأميركية لدى الأمم المتحدة سوزان رايس أن بيع الأسلحة الروسية إلى سورية أمر “مشين” لكن تبقى تلك العملية مشروعة. كذلك، لم تغير موسكو رأيها نتيجة الضغوط الدبلوماسية والأخلاقية من الغرب، حتى عندما اعتبر الغربيون أن روسيا تساعد على قتل المدنيين، ويوم الخميس، كان مسؤول من شركة الأسلحة الروسية الحكومية “روسوبورون إكسبورت” (Rosoboronexport) يعرض أمام الموفدين السوريين مجموعة من قاذفات الصواريخ المحمولة على متن شاحنة، فصرح لمجلة “تايم”: “هؤلاء هم الأشخاص الذين نعوّل عليهم!”.
الأبواب المغلقة

بدا السوريون منبهرين بما يشاهدونه، حتى إنهم صعدوا إلى الشاحنة لمعاينة المعدات قبل أن يصافحوا الروس وينتقلوا إلى معارض أخرى. باستثناء العقيد السعدي، رفض الموفدون السوريون الإفصاح عن أسمائهم أو الإجابة عن أسئلة مجلة “تايم”. عرّفنا السعدي على رئيس الوفد السوري، لكن اكتفى هذا الأخير بالتأكيد أنه قدم من دمشق خصوصاً لحضور المعرض. يقول هيو غريفيث، خبير في شؤون تهريب الأسلحة في معهد استوكهولم الدولي لأبحاث السلام الذي يرصد سوق الأسلحة العالمية: “يشير هذا الأمر إلى وجود نية جدية بالشراء”. كان يستحيل معرفة الأنواع التي سيشتريها السوريون، إذ تُعقد تلك الصفقات وراء الأبواب المغلقة. لكن في حال اشتروا في نهاية المطاف البنادق الهجومية أو المركبات المدرعة التي أمضوا ساعات وهم يتفحصونها يوم الخميس، فستواجه وزارة الخارجية الروسية مشكلة جدية على المستوى الرسمي لأنها كانت قد أعلنت بيع أسلحة دفاعية حصراً إلى سورية (مثل الصواريخ المضادة للطائرات) كي لا تُستعمل ضد المدنيين. لكن الإمكانات المغايرة التي روّج لها فيشنياكوف عن أسلحة قتال الشوارع خلال معرض أسلحة الكلاشينكوف تُضعف مصداقية الوزارة.

كانت المجموعة الروسية للتكنولوجيا (Russian Technologies) المختصة بالأسلحة الروسية وأعمال الهندسة هي التي نظمت معرض الأسلحة الذي شمل استعراض “باليه الدبابات” من تصميم مسرح البولشوي. يرأس سيرغي شيميزوف هذه الشركة، وهو صديق قديم لبوتين من أيام الاستخبارات السوفياتية. خلال الثمانينيات، عمل الرجلان في مجال التجسس لمصلحة الاستخبارات في مدينة دريسدن في ألمانيا الشرقية. بعد أن أصبح بوتين رئيس روسيا في عام 2000، حوّل تدريجاً أكبر شركات تصنيع الآلات والأسلحة التي تملكها الدولة في روسيا إلى مؤسسة واحدة يرأسها شيميزوف. تسيطر المجموعة الروسية للتكنولوجيا (Russian Technologies) اليوم على 600 شركة تقريباً وآلاف المصانع التي تنتج جميع أنواع المعدات بدءاً من السيارات والطائرات وصولاً إلى المعدات العسكرية. لكن أبرز الشركات هي “روسوبورون إكسبورت” (Rosoboronexport)، وهي الشركة الروسية الوحيدة التي تستطيع بيع الأسلحة إلى الخارج بشكل قانوني. في السنة الماضية، باعت الشركة أسلحة بقيمة تفوق الـ11 مليار دولار إلى دول العالم، فأصبحت روسيا بذلك ثاني أهم تاجرة أسلحة في العالم بعد الولايات المتحدة. اعتباراً من عام 2011، كانت روسيا تملك عقوداً هائلة لبيع الأسلحة إلى سورية بقيمة 4 مليارات دولار تقريباً، بما في ذلك بيع صواريخ Buk-M2E أرض-جو، وصواريخ Pansir-S1 وطائرات مقاتلة من طراز Mig-29.

كيان عبقري شرير

تحدث أناتولي إيسايكين، مدير عام شركة “روسوبورون إكسبورت”، إلى مجلة “تايم” خلال معرض الأسلحة وقال: “إنها واحدة من أسواقنا التقليدية”. كان إيسايكين أيضاً مسؤولاً في الاستخبارات السوفياتية قبل أن يصبح من كبار تجار الأسلحة في روسيا، وهو يعتبر أن المسألة السورية تمت مقاربتها بشكل مبالغ فيه، وقد يكون الأمر جزءاً من مؤامرة غربية تهدف إلى تشويه سمعة شركته. يوضح إيسايكين: “في هذا القطاع، ثمة محاولات لإظهار منظمتنا “روسوبورون إكسبورت” وكأنها كيان عبقري شرير يحاول صبّ الزيت على النار. أظن أن الأمر هو جزء من لعبة سياسية”. بحسب رأيه، يبدو أن جميع الجهود الغربية التي ترمي إلى منع روسيا من بيع الأسلحة إلى سورية هي مجرد منافسة غير عادلة: “أعني بذلك طبعاً المنافسة بمعناها الواسع. لطالما كانت المنافسة موجودة وستبقى موجودة دوماً. بالتالي، إذا خسرت روسيا سوقاً معينة، فسيحصل منافسوها على فرصة الربح”.

يقول ألكسندر غولتز، خبير عسكري في موسكو، إن ازدواجية المواقف حول العالم هي ما تدفع روسيا إلى تسليح الأسد: “من الواضح هنا أن الحافز الأساسي له علاقة بالإيديولوجيا لا بالأرباح المالية. إنها إيديولوجيا الواقعية السياسية التي كانت سائدة خلال الحرب الباردة حيث خاض طرفان رئيسان ما يشبه لعبة الشطرنج، وكانا يحركان الأطراف الأخرى ويتلاعبان بالوضع. لا يزال بوتين ينظر إلى العالم بهذه الطريقة”. يملك السوريون من جهتهم أسباباً كثيرة لمتابعة شراء الأسلحة الروسية حتى لو كانوا لا يحتاجون إليها. يوضح غريفيث: “هم يحاولون بأي ثمن الحفاظ على دعم روسيا كشريكة لهم من خلال نقل أموال نقدية إضافية إلى الروس وتعزيز تلك العلاقة الثنائية”.

جثة القذافي

يبدو أن روسيا تتوق إلى مجاراة سورية في هذه اللعبة للحصول على الأموال النقدية والمكاسب الجيوسياسية في آن. تزامناً مع ثورات الربيع العربي التي اعتبرها الكثيرون في موسكو مؤامرة أميركية تهدف إلى تقسيم الشرق الأوسط، زاد استياء بوتين بسبب تدخل الغرب في المنطقة. عام 2010، عندما افتتح بوتين أول بازار لبيع الأسلحة في قاعدة جوكوفسكي الجوية، حضر الرئيس اليمني علي عبدالله صالح إلى المعرض وقد رافقه بوتين شخصياً في تلك الجولة. حين كان الرجلان يمران أمام معرض دبابات T-90 مع المراسلين، التفت بوتين إلى صالح وقال له: “هذه هي المعدات التي يجب أن تشتريها”. بحسب رأي غولتز، هو لم يفعل ذلك لكسب الأرباح بل لنشر النفوذ الروسي في اليمن. من المعروف أن صفقات بيع الأسلحة ليست مجرد تبادل مالي عابر، بل إنها تتطلب الحفاظ على علاقات ثابتة بين المشتري والبائع للتمكن من تركيب الأسلحة واستخدامها وإصلاحها. يوفر البائع في أغلب الأحيان الذخائر والتدريب طوال سنوات. وفق غولتز، إنها علاقة جدية بمعنى الكلمة.


توترت العلاقات بين روسيا واليمن نتيجة ثورات الربيع العربي التي اندلعت في اليمن بعد سنة على جولة بوتين مع صالح في بازار الأسلحة في عام 2010. سرعان ما اتخذت تلك الثورة منحىً عنيفاً وتنازل صالح عن السلطة بعد فترة قصيرة من إصابته نتيجة اعتداء صاروخي من تنفيذ الثوار في شهر يونيو الماضي، فخسر بوتين بذلك أحد حلفائه وبلداً كان يستغل روابطه مع الولايات المتحدة ويستفيد من الاضطرابات في شبه الجزيرة العربية أيضاً. بعد مرور أشهر عدة، قُتل الدكتاتور الليبي معمر القذافي (وهو عميل آخر لتجار الأسلحة الروس) على يد الثوار الذين حصلوا على الدعم بفضل عمليات القصف التي أطلقها حلف الأطلسي.
شعر بوتين بسخط عارم ولا سيما بعد عرض صور جثة القذافي المضرجة بالدماء في وسائل الإعلام، فعقد مؤتمراً صحافياً في الدنمارك وانتقد دور حلف الأطلسي في الثورة الليبية قائلاً: “من منحهم الحق بفعل ذلك؟ ما الذي يدعوهم إلى التورط بهذا الصراع المسلح؟ هل يفتقر العالم إلى أنظمة هشة؟ هل سنتدخل في كل صراع محلي؟ يجب أن تدعوا الشعوب تحل مشاكلها بنفسها”.

عملاء أوفياء

بعد الحرب في ليبيا، اتخذت روسيا موقفاً صارماً. فبدأت تعيق جميع جهود الأمم المتحدة التي تهدف إلى إجبار الأسد على التنحي كما فعل القذافي وصالح. فبينما بدأت الدول الخارجية تسلّح الثوار في سورية، تابعت روسيا تسليح الأسد. يقول إيسايكين من شركة “روسوبورون إكسبورت”: “لن تؤثر أي من هذه الأحداث في علاقاتنا مع الأسواق التقليدية بأي شكل”. عند رؤية الحشود في بازار الأسلحة الذي كان يعج بالعسكريين من آسيا وإفريقيا والشرق الأوسط، يتبين لنا أن روسيا لا تزال تملك شريحة واسعة من العملاء الأوفياء حول العالم. بينما كانت الدبابات الروسية تؤدي استعراضاً في ساحة معركة صورية يوم الخميس، كانت الوفود الخارجية مسرورة لدى مشاهدتها عرضاً محترفاً عن فنون الحرب. في تلك الأمسية، بعد يومين طويلين من التسوق، توجه الموفدون السوريون نحو موقف السيارات وهم يحملون حقائب مليئة بكتيبات وفيديوهات ترويجية عن المعدات العسكرية الروسية. لا شك أنهم كانوا يفكرون بمدى فاعلية تلك المعدات في بلدهم.
Simon Shuster - Time

0 comments:

إرسال تعليق

 
تصميم وتنفيذ الادارة التنفيذية