الثلاثاء، 8 مايو 2012

7 أيار يوم سقطت المقاومة في سلاحها 1 قرار "الغزو" كان جاهزاً.. بانتظار "القرارين

"7 أيار.. يوم سقطت المقاومة في سلاحها" ملف جديد تفتحه "المستقبل" ليس لتذكير اللبنانيين عموماً، وأهل بيروت خصوصاً، بما جرى خلاله، وهم لم ينسوه، وإنما من أجل الوقوف على مخاطر تداعياته السياسية التي لمّا تنتهِ بعد، وآخرها الحكومة الحالية التي كانت ولادتها عبارة عن "7 أيار سياسي" جاء نتيجة بديهية لـ7 أيار العسكري.
"7 أيار" صار تاريخاً لوصمة عار في سيرة لبنان الحديث، مثله مثل مواعيد كثيرة مثّلت "تركة ثقيلة" لأصحابها. تاريخٌ صار عنواناً للغدر. أساء الى صانعه "حزب الله" أكثر بكثير مما أساء الى أهل بيروت، رغم الخسائر الفادحة التي تكبّدوها في الأرواح والممتلكات في ذلك اليوم الذي بدلاً من أن يسعى الحزب الى استيعاب نتائجه ذهب الى حدّ وصفه بـ"اليوم المجيد".
لم تسقط بيروت في 7 أيار. وحده سلاح "حزب الله" سقط في بيروت. هو حاول أن يسقطها، لكنه سقط هو نفسه وبقيت بيروت.
في هذا الملف وقائع غير معروفة وخبايا ووثائق يكشفها الزميل جورج بكاسيني عن مقدمات 7 أيار السياسية بالإضافة الى المرحلة الممتدة من 7 أيار الى حين انتهاء الأعمال العسكرية، وصولاً الى مؤتمر الدوحة وما دار في كواليس هذا المؤتمر.
في الحلقة الأولى اليوم تفاصيل عن محطات سبقت "غزوة" بيروت، ابرزها الاتصالات الرسمية التي جرت مع "حزب الله" حول شبكة الاتصالات، وجلسة مجلس الوزراء في 5 أيار، وصولاً الى تطويق منزل مفتي الجمهورية الشيخ محمد رشيد قباني من قبل المسلّحين، عندما قرّر النائب سعد الحريري فكّ الحصار بنفسه.
كما تتوقّف هذه الحلقة عند الإجراءات الأمنية التي اتخذت في السرايا الحكومية والخطة التي وضعت لحمايتها من أي اقتحام، إضافة الى الأفكار التي راودت رئيس الحكومة فؤاد السنيورة وفريق عمله في مواجهة كل الاحتمالات.

جورج بكاسيني

بعد خروج الجيش السوري من لبنان في نيسان 2005، ووصول قوى 14 آذار الى السلطة بعد الانتخابات النيابية في العام نفسه، لم يُفتح ملف ترسيم حدود "حزب الله" ضمن النظام، رغم تبدّل الظروف وموازين القوى السياسية في لبنان الذي كان يفترض، بديهياً، فتح مثل هذا النقاش. لكن تركيز قوى 14 آذار على أولوية إنهاء الوصاية السورية العسكرية على لبنان، ومن ثم دخولها في ما سمّي "الحلف الرباعي"، حَصَر النقاش في هذا الملف ضمن جدران 14 آذار المغلقة.. فكم بالحري بعد العدوان الإسرائيلي على لبنان في تموز 2006 الذي بدّل، من جديد، ميزان القوى في الداخل، وفتح الباب أمام أزمة سياسية بين "حزب الله"، الذي استعاد الشعور بفائض القوة، وبين قوى 14 آذار.. والتي امتدّت حتى 7 أيار 2008 حيث انفجرت هذه الأزمة ميدانياً، في حرب شوارع من طرف واحد، رغبة من حزب المقاومة بتغيير قواعد الاشتباك في لبنان بدعم ملحوظ من النظام السوري.
لهذه الأسباب لم يطرح على بساط البحث الجدّي، منذ العام 2005 حتى العام 2008، موضوع شبكة الاتصالات التابعة لـ"حزب الله"، والتي كانت موجودة في معظم الأراضي اللبنانية. كان الجميع يعلم أن هذه الشبكة تمثّل جزءاً من المنظومة العسكرية للحزب التي كانت تحظى بغطاء الوصاية السورية على لبنان، لكن أحداً لم يناقش الشقّ الداخلي من هذه المنظومة بعد انتهاء مرحلة الوصاية، ما هو مسموح وما هو غير مسموح. فالسلطة السياسية المتمثلة بالحكومة لم تُثر قبل 5 أيار ملف سلاح "حزب الله" أو ملحقاته اللوجستية كشبكة الاتصالات خارج إطار الجنوب، لا على طاولة مجلس الوزراء ولا مع الجيش اللبناني الذي غابت عنه أي تعليمات واضحة أو محدّدة في هذا الخصوص. كما أن مرجعية قرار الحرب والسلم في جنوب لبنان لم تناقش هي الأخرى بحيث بقي هذا العنوان غامضاً قبل صدور القرار 1701، مما أتاح لـ"حزب الله" هامشاً من الحركة في الداخل بحجّة المقاومة في الجنوب.
ذلك أنه وعلى طريقة الأنظمة الديكتاتورية في المنطقة التي كانت تتمسك بالسلطة وتحرم شعوبها من الرغيف والحرية وحق تداول السلطة والتعبير عن الرأي بحجّة المواجهة مع العدو الإسرائيلي، كذلك فعل "حزب الله" الذي تمسّك بسلاحه بذريعة المقاومة للعدوّ رغم إقرار اتفاق الطائف عام 1990 (حلّ الميليشيات) ومن ثم انسحاب الجيش الإسرائيلي من لبنان عام 2000، وانسحاب الجيش السوري عام 2005، وأخيراً انتشار "اليونيفيل" في الجنوب عام 2006 الى ان حول لبنان الى نظام شبيه بأنظمة المنطقة عندما أزاح حكومة الرئيس سعد الحريري ونصّب رئيساً جديداً للحكومة وسيطر على السلطة بصورة كاملة ملغياً نتائج الانتخابات النيابية.

]وفيق صفا للجنة الوزارية: من يمسّ شبكة الاتصالات يتحمّل المسؤولية
]قرّر الحريري التوجه إلى منزل المفتي إثر تطويقه.. فتم سحب المسلحين

منذ 25 نيسان 2005 وحتى 7 أيار 2008 لم يجرِ أي ترسيم لحدود "حزب الله" داخل النظام اللبناني، لم تُحدّد "حقوقه" ولا "واجباته". لذلك كبرت الفجوة كما يقول الوزير السابق محمد شطح الذي كان مستشاراً لرئيس الحكومة فؤاد السنيورة في العام 2008 "بحيث عندما طفا على السطح ملف شبكة الاتصالات، في ربيع 2008، بدا بالنسبة الى فريق من اللبنانيين وكأنه اكتشاف لأمر جديد أو "خرق" لتفاهم معيّن أو مبدأ معيّن، فيما اعتبر الفريق الآخر، أي الحزب نفسه، الأمر تتمّة طبيعية لملف السلاح، بحيث أنه ولدى فشله في استعادة التوازن الداخلي من خلال الاعتصام حول السرايا استفاد من قراري جلسة 5 أيار الحكومية للمجازفة بحركة عسكرية كانت بالنسبة إليه محسوبة متى وكيف ستنتهي من أجل استعادة هذا التوازن".
هذا الفارق الكبير في قراءة دور الحزب وحدوده بين الفريقين يعزوه شطح الى تقويم "خاطئ نوعاً ما" نوقش العام 2005 في أوساط 14 آذار، كان مفاده أن انسحاب الجيش السوري وضع لبنان في موقع مختلف وأن تغييراً حصل وبالتالي يمكن التعامل مع "حزب الله" من الآن وصاعداً "ضمن التركيبة اللبنانية": "لم يكن هناك إدراك كاف أنه مع انسحاب الجيش السوري بدأ ظهور مسار واضح ومبرمج وهادف لاستعادة الإمساك بما يكفي من الداخل اللبناني عبر حزب الله".
عندما توسّعت شبكة الحزب
إذاً الحكومة اللبنانية برئاسة الرئيس فؤاد السنيورة كانت على علم بواقع شبكات الاتصالات التي أنشأها "حزب الله" تحت الأرض في مناطق الجنوب والبقاع، منذ ما قبل العام 2008. وزير الاتصالات آنذاك مروان حمادة كان بحكم موقعه على اطلاع كامل على مجموعة من تفاصيل هذه الشبكة: "كنا نحذّر حزب الله من تمدّد هذه الشبكة الى مناطق أخرى، حتى أننا ألزمناه بإزالة الشبكة التي تمّ إنشاؤها في بيروت بين مقر السفارة الفرنسية والسرايا الحكومية. وسرعان ما بدأ حفر الطرق في مناطق عيون السيمان وترشيش والمنيطرة اللقلوق، فاستنتجنا أن المقصود بذلك مدّ شبكة في اتجاه جبل لبنان الشمالي، بعد أن ثبت لنا أن شبكة كانت قد أنشئت بين الضاحية الجنوبية وكيفون والقماطية (جبل لبنان الجنوبي)".
لكن عندما لمسنا أن الشبكة بدأت تلامس مناطق جبل لبنان المسيحي، يضيف حمادة، "شعرنا أن ثمة تطوّراً نوعياً في هذا الخصوص لا يجوز إغفاله. أثرنا الموضوع مع رئيس الحكومة ومع الجهات المعنيّة فقرّ الرأي على عقد اجتماع في منزل وزير الدفاع (آنذاك) الياس المرّ بحضوري وحضور وزير الداخلية (آنذاك) حسن السبع ومدير المخابرات في الجيش العميد جورج خوري والمدير العام لقوى الأمن الداخلي اللواء أشرف ريفي وضباط آخرين، بالإضافة الى ممثّل حزب الله الحاج وفيق صفا. أثرنا الموضوع خلال هذا الاجتماع فكان جواب صفا "هذه الشبكة جزء من أمن المقاومة لا نفاوض بشأنها، ومن يمسّ بالشبكة يتحمّل مسؤوليته". فأعلمنا الرئيس السنيورة والرئيس سعد الحريري والنائب وليد جنبلاط بالأمر وبدأنا بإعداد ملفّ لوضعه على طاولة مجلس الوزراء لاتخاذ القرار المناسب".
هذا الاجتماع الذي عقد قبل ثلاثة أيام من السابع من أيار، جاء إثر اكتشاف الوحدة الألمانية المشاركة في قوات "اليونيفيل" (مسؤولة عن أمن البحر) كاميرا المراقبة على المدرج 17 في مطار رفيق الحريري الدولي، والتي أحالت بشأنها مراسلة رسمية الى مديرية المخابرات في الجيش اللبناني التي تحقّقت بدورها من الأمر، ورفعت بشأنه مراسلة رسمية الى وزير الدفاع الذي أحالها بدوره الى النيابة العامة ومن ثم الى الحكومة.
الوزير الياس المرّ، الذي كان على موعد مع النائب السابق فارس سعيد صباح الأول من أيار، أطلعه على نصّ المراسلة المرفوعة من قبله الى مجلس الوزراء. استأذنه منسّق الأمانة العامة لقوى 14 آذار بالحصول على نسخة منها فوافق. توجّه سعيد على الفور من وزارة الدفاع الى المختارة حيث سيلقي محاضرة بمناسبة ذكرى تأسيس الحزب "التقدمي الاشتراكي". التقى النائب وليد جنبلاط وزوّده بالنسخة التي في حوزته، فطار صوابه، مسارعاً الى كشف النقاب عنها أثناء المحاضرة نفسها.
لم يكتفِ جنبلاط بذلك، وإنما ألغى سفره الذي كان مقرراً في اليوم التالي الى القاهرة، وعقد مؤتمراً صحافياً ( أيار) عرض فيه خرائط الشبكة كاشفاً النقاب عن كل التفاصيل. وشنّ هجوماً على "حزب الله" وأمينه العام معتبراً أن رئيس جهاز أمن المطار مخترق وتابع لـ"حزب الله"، وطالب بإقالته. كما دعا الى وقف الرحلات الجوية للخطوط الجوية الإيرانية الى بيروت وطرد السفير الإيراني من لبنان، واتّهم من يقف وراء هذه الأعمال ربّما بالتخطيط لقتله أو لقتل سعد الحريري أو فؤاد السنيورة.
في ظلّ هذه الأجواء، عقدت جلسة مجلس الوزراء في 5 أيار. أثير بند "كاميرا المراقبة" تحت عنوان "عرض وزارة الاتصالات إقامة شبكات هاتفية غير شرعية على الأراضي اللبنانية". عرض الوزير المرّ المعطيات كاملة. فوجئ الوزراء الذين لم يكونوا على اطلاع على هذه الوقائع. انتفض معظمهم وفي مقدّمهم وزراء "اللقاء الديموقراطي" مروان حمادة وغازي العريضي ونعمة طعمة الذين طالبوا بنقل رئيس جهاز أمن المطار العميد وفيق شقير من مركزه الى موقع آخر، كما بإزالة شبكة الاتصالات التابعة للحزب.
قراران بالإجماع.. رغم "توجّس" السنيورة
الرئيس السنيورة قال "رغم تيقّني من أن هذا الوضع غير مقبول ولا يجوز أن يستمر، أنا متوجّس من اتخاذ مثل هذه القرارات فدعونا نتريّث". وأيّده في ذلك وزير التربية السابق خالد قباني. وزير الدفاع شاطر السنيورة "توجسّه" لكنه أضاف أنه بين التريّث وتطبيق القانون "أنا مع تطبيق القانون"، موضحاً أنه "إذا اتخذنا هذا القرار لا شك أننا نكون قد ارتكبنا خطأً سياسياً بسبب أجواء الاحتقان في البلد، لكن إذا لم نتخذ هذا القرار فنكون قد فتحنا الباب أمام كارثة، فعلينا أن نختار بين "الخطأ" و"الكارثة". الوزيرة نايلة معوّض أيّدت تطبيق القانون وكذلك فعل الوزير ميشال فرعون. فيما أحرجت مداخلة المر الوزراء طارق متري وشارل رزق وسامي حداد وجهاد أزعور فوافقوا على إصدار القرارين. لكن السنيورة عاد وتمنّى على الجميع التريّث في اتخاذ أي قرار، فسأل الوزراء المحسوبون على جنبلاط: كاميرا المراقبة تشكّل خطرا ًعلى من؟ فجاء الجواب: على فؤاد السنيورة وسعد الحريري ووليد جنبلاط وأمين الجميل وسمير جعجع وكل القيادات المحسوبة على 14 آذار وتستخدم الطائرات الخاصة، باعتبار أن المدرّج 17 هو ذاك المخصّص للطائرات الخاصة.
كما أثار وزراء خطورة أن المطار يقع تحت مرمى نيران "الجبهة الشعبية القيادة العامة" المتمركزة في الناعمة والتي تقرّر على طاولة الحوار برعاية رئيس مجلس النواب نبيه برّي إزالة قواعدها، مما أطلق العنان من جديد لتحفّظ الوزراء المتحفّظين على وجود كاميرا المراقبة، ولا سيما منهم وزراء "اللقاء الديموقراطي" فيما كان النائب الحريري يتابع وقائع الجلسة عبر خط مفتوح مع الوزير العريضي حيث كان يطلب منه أحياناً التحدث الى وزراء آخرين لحثّهم على إصدار القرارين. كلّف العريضي الاتصال بالنائب جنبلاط، والوزير جان أوغاسبيان الاتصال بالنائب الحريري، فكان جواب الحريري وجنبلاط "إذا لم تتخّذوا قراراً الليلة استقيلوا".
أُحرج الرئيس السنيورة، ولم يعد أمامه خيار سوى الموافقة باعتبار أنه كانت تكفي استقالة وزيرين من الحكومة لتصبح بحكم المستقيلة بسبب انسحاب الوزراء الشيعة (النصاب كان يحتاج الى 16 وزيراً). الساعة شارفت الرابعة والنصف فجراً. صوّت مجلس الوزراء بالإجماع (17 صوتاً) وصدر القراران الشهيران اللذان سيتحوّلان الى ذريعة لـ"حزب الله" لغزو بيروت، بعد أن حاول العريضي تخفيف لهجة البيان من دون أن ينجح.
جاء في المقرّرات الرسمية التي أذاعها وزير الإعلام الآتي:
"1 في موضوع شبكة الاتصالات الهاتفية التي أقامها "حزب الله" على امتداد الأراضي اللبنانية:
ـ اعتبارها غير شرعية وغير قانونية وتشكّل اعتداء على سيادة الدولة والمال العام.
ـ إطلاق الملاحقات الجزائية بحق كل من يثبت ضلوعه في العملية أفراداً كانوا أو أحزاباً أو هيئات أو شركات.
ـ رفض الادعاء بأن حماية "حزب الله" تستوجب إقامة مثل هذه الشبكة واعتبارها سلاحاً مكمّلاً لسلاح الحزب وكذلك رفض منطق ربطها بالتشويش الإسرائيلي أو السوري أو الأممي الذي دانته وتدينه الحكومة وتعمل في كل مرة على إزالته.
ـ تزويد الجامعة العربية والمنظمات الدولية بتفاصيل هذا الاعتداء الجديد على سيادة القانون في لبنان وفضح الدور الذي قامت وتقوم به هيئات إيرانية في هذا الحقل.
ـ تكليف الإدارات المختصة والقوى الأمنية متابعة الوضع الشاذ القائم ومعالجته باعتبار أن ملكية هذه الشبكات تعود قانوناً للدولة اللبنانية التي لها الحق في إزالتها.
2 إعادة قائد جهاز أمن المطار العميد وفيق شقير الى ملاك الجيش، وتأكيد حق الدولة وواجبها وإصرارها على استكمال متابعة قضية الكاميرات لمراقبة المدرج الرئيسي في المطار والتي تم تركيبها من "حزب الله"، بما يهدّد أمن المطار وسلامته ويشكّل انتهاكاً أيضاً لسيادة الدولة".
أما القرار الثالث الذي اتخذه مجلس الوزراء في تلك الجلسة والذي كان من المفترض أن يسحب ذريعة الاتحاد العمالي العام للاستمرار بقرار التظاهر بعد يومين، أي في 7 أيار، فكان رفع الحد الأدنى للأجور من ثلاثماية ألف ليرة لبنانية الى خمسماية ألف.
انتهت جلسة مجلس الوزراء في الرابعة والنصف فجراً. بدّل السنيورة ثيابه وتوجه مباشرة الى المطار لتقلع الطائرة التي كانت تقله في السابعة والنصف صباحاً الى الكويت، حيث كان على موعد مسبق مع أمير الكويت. رئيس الحكومة أطلع أمير الكويت على أجواء بيروت مسترسلاً في الاعراب عن قلقه من "نوايا تصعيدية" لدى "حزب الله": "يبدو أننا على عتبة مواجهة في لبنان، الأجواء غير مطمئنة، لا بل بالغة الخطورة". ثم عاد قبل مغيب الشمس الى بيروت حيث فوجئ بظهور سواتر ترابية على طريق المطار لم تكن موجودة في طريق الذهاب. أدرك عندئذٍ أن ثمة استعداداً جدياً لعملية عسكرية لم تكن الأجهزة الأمنية كلها في صورتها.
إيران تردّ في بيروت
وبالفعل ورغم صدور قرار رفع الحد الادنى للاجور رفض الاتحاد العمالي بلسان رئيسه غسان غصن قرار الحكومة في اليوم التالي (6 أيار)، معتبراً أنه "غير كاف وشكلي وملتبس، وأكد الاستمرار بـ"قرار التظاهر والإضراب" في 7 أيار. فيما اعتبرت اتحادات نقابات العمال والمستخدمين وسائقي السيارات العمومية للنقل البرّي وعمّال البناء والأخشاب وعمّال الصناعات الغذائية وعمّال البقاع أن ما صدر من قرارات عن مجلس الوزراء هو "استفزاز وإهانة للعمّال والموظفين وكل العاملين بأجر..".
أما من جانب "حزب الله"، فجاء ردّ الفعل الأول على قرارات الحكومة من مسؤول العلاقات الدولية في الحزب نواف الموسوي الذي اعتبر أن "الفريق الآخر يلعب بالنار ومن يلعب بالنار يحرق يديه". وأضاف في حديث صحافي لإذاعة "صوت الغد" أن إقالة العميد شقير "تجاوز للخطوط الحمر"، رافضاً الإفصاح عمّا سيقوم به الحزب ردّاً على هذه الخطوة.
هذا الاحتقان الذي تصاعد في لبنان لم يكن منفصلاً عن احتقان أميركي إيراني مماثل بدأ بالظهور في العراق، حيث شنّت القوات العراقية، بدعم أميركي، هجوماً غير مسبوق على ميليشيا "جيش المهدي" القريبة من الحرس الثوري الإيراني، بالإضافة الى حملة دهم وتفتيش في منطقة الشعلة شمال غرب بغداد قامت خلالها باقتحام مكتب "الشهيد الصدر" واعتقلت عدداً من الموجودين فيه، بالتزامن مع قصف جوي واشتباكات بين قوات أميركية وعراقية من جهة و"جيش المهدي" من جهة ثانية في مدينة الصدر معقل التيار الصدري.
إيران التي اتّهمت الولايات المتحدة (5 أيار) بارتكاب "مذبحة بحق الشعب العراقي"، خصوصاً بعد إعلان المتحدث باسم الجيش الأميركي في بغداد الكولونيل دونالد بيكون أن "لدينا عدداً من المحتجزين يقولون إن جماعة حزب الله اللبنانية تقدّم تدريباً لعراقيين في معسكرات تدريب (فيلق القدس) القريبة من طهران"، فيما أعلن السفير الأميركي رايان كروكر في اليوم نفسه أن إيران وسوريا "تستخدمان استراتيجية سياسية في العراق مماثلة لتلك التي استخدمتاها في لبنان".. ردّت على الأميركيين في بيروت صباح 7 أيار.
.. وسقطت بيروت و"مقولة" المقاومة
اندفع الحزب عبر ميليشياته التي خرجت من مربّعاتها الأمنية في الضاحية الجنوبية ومن مخيم احتلال وسط العاصمة الى تنفيذ سلسلة اعتداءات على أهل بيروت وعلى المرافق الاقتصادية والخدماتية. أقفل مطار رفيق الحريري الدولي من خلال نشر مسلّحيه على طريق المطار وقطع الطريق المؤدية إليه بالأطر المشتعلة. فيما بادرت إدارة الطيران المدني الى نقل الطائرات الخاصة وتعليق حركة الطيران من المطار وإليه. كما استولت مجموعات مسلّحة على كل مراكز "تيار المستقبل" في العاصمة وقامت بإحراقها.
مصدر في "حزب الله" قال لصحيفة "أوان" الكويتية إن إقالة رئيس جهاز أمن المطار هي "استهداف للطائفة الشيعية"، فيما كشف مصدر مسؤول في الحزب لوكالة "فارس" الإيرانية تعليقاً على الأحداث أن "الآتي أعظم وستفتح أبواب جهنّم على الحكومة العميلة"، ليعلن مصدر آخر لوسيلة إعلامية ثالثة أن "لا مجال أمام الحكومة سوى التراجع عن قراراتها لجهة شقير أو لجهة شبكة الاتصالات"، مضيفاً أن قيادة "حزب الله" أمهلت الحكومة 48 ساعة للتراجع عن هذين القرارين مهدّدة بالتصعيد.
جاء ذلك كلّه قبل يوم واحد من الموقف الذي سيعلنه الأمين العام لـ"حزب الله" السيد حسن نصرالله (8 أيار) فيما عقدت الأمانة العامة لقوى 14 آذار اجتماعاً طارئاً أعلنت إثره "استمرار مؤازرتها الكاملة لحكومة لبنان الشرعية برئاسة الرئيس فؤاد السنيورة في دفاعها عن لبنان وسيادته وقراراتها الحاسمة على هذا الصعيد ولا سيما الأخيرة منها والمتعلقة بمطار بيروت وبشبكة الاتصال الموازية التي يقيمها "حزب الله"..". وأكدت أن هذا "الانقلاب المسلّح الموحى به من إيران والذي ينفّذه حزب الله لن يمرّ وهي لن تقف مكتوفة الأيدي حيال هذا الاعتداء السافر على السيادة اللبنانية".
أما الموقف الأقوى، فجاء من دار الفتوى حيث أعلن مفتي الجمهورية الشيخ محمد رشيد قباني أن "المسلمين السنّة في لبنان ضاقوا ذرعاً بالتجاوزات والانتهاكات، واللبنانيون جميعاً لم يعودوا قادرين على تحمّل المزيد من المغامرات السياسية"؛ أضاف: "كنا نعتقد أن "حزب الله" معني بمقاومة الاحتلال الإسرائيلي، فإذا به يتحوّل الى قوّة مسلّحة لاحتلال بيروت".
العرب أصيبوا بذهول، لم يستوعبوا في البداية ما جرى. الرئيس السنيورة اتّصل بالأمين العام للجامعة العربية عمرو موسى ووضعه في صورة التطورات، تماماً كما فعل مع وزير الخارجية السعودي الأمير سعود الفيصل ووزير خارجية مصر أحمد أبو الغيط ووزير النفط القطري عبدالله العطية. فيما تلقّى السنيورة اتصالاً من نظيره التركي رجب طيّب أردوغان استوضحه خلاله ما جرى بالتفصيل.
لم يكن الجيش اللبناني على علم مسبق بما حدث في 7 أيار. فيما كان "حزب الله" وضع خطّة مُحكمة للإمساك بمفاصل العاصمة. لم يكن ينقصه سوى التوقيت السياسي الملائم بعد أن فشل في تحقيق أي نتيجة سياسية من حصار السرايا الحكومية والاعتصام في ساحات وسط بيروت. أعدّ خطّته وانتظر. فجاء القراران اللذان صدرا عن الحكومة ذريعة كافية لتنفيذ شعار "السلاح يحمي السلاح"، بعد أن فشل الحزب في تسويق زعمه أن "تيار المستقبل" يمتلك السلاح في بيروت وأن "عناصر" منه تنتشر في أرجاء العاصمة، بدليل أن سقوط بيروت تحت قبضة الحزب خلال 4 ساعات كان أكبر برهان على عدم وجود سلاح أو مسلّحين تابعين لتيار "المستقبل".
في قلب "اليوم المشؤوم"
صباح 7 أيار، خلت العاصمة من أي وجود للقوى الأمنية الرسمية. الجيش سحب عناصره من الشوارع ومن نقاط المراقبة، وأعاد تمركزها خارج المدينة. برزت تجمّعات عسكرية تحيط ببيروت من كل الجهات، مزوّدة بأوامر مفادها أن تحمي هذه الوحدات نفسها وثكناتها فقط، فيما ملأت مواكب مسلّحي "حزب الله" و"أمل" والحزب "السوري القومي الاجتماعي" و"البعث" شوارع بيروت بطولها وعرضها من دون حسيب أو رقيب. المسلّحون تعرّضوا لمكتب تيار "المستقبل" في النويري، فيما زعمت وسائل إعلام "حزب الله" أن إشكالات أمنية وقعت بين مجموعات تابعة لـ"تيار المستقبل" والجيش اللبناني.
رئيس الأركان في الجيش اللواء شوقي المصري نصح الوزير مروان حمادة بالخروج من منزله في بيروت. نظر حمادة من الشبّاك المطلّ الى البحر فوجد محيط فندق "لاهويا سويت"، الذي كان يقطن فيه نواب 14 آذار في مرحلة الاغتيالات، خالياً من أي وجود عسكري رسمي، فتوجّه على الفور الى منزل الوزيرة نايلة معوض في الحازمية حيث أمضى بضعة أيام.
في السرايا الحكومية، كان الخط مفتوحاً بين فؤاد السنيورة وسعد الحريري الموجود في قريطم. حرس رئاسة الحكومة أعدّوا خطة لتأمين سلامة رئيس الحكومة، الذي كان اعتاد على الضغط النفسي الذي كان يمارسه المعتصمون حول السرايا بدءاً من توجيه "البروجكتورات" على نوافذ مقرّه وصولاً الى إطلاق الموسيقى الصارخة ليلاً ونهاراً. الخطة تهدف لمواجهة احتمالين: الدفاع عن رئيس الحكومة ومَن معه في حال اقتحام السرايا، وإخلاء السرايا من قاطنيها مع التزوّد بأقنعة واقية في حال استخدام المسلحين قنابل مسيلة للدموع.
أما وليد جنبلاط، فقرّر تحمّل مسؤولية القرار الذي اتّخذه وشركاؤه في الحكومة. اتّصل به نواب من كتلته ونصحوه بالانتقال من بيروت الى المختارة، فكان جوابه "لن أخرج من بيروت، سأبقى هنا مع أهل بيروت ومع سعد الحريري وفؤاد السنيورة".
فكّر رئيس الحكومة والوزراء القاطنون معه في السرايا ومستشاروه طويلاً بما يمكن القيام به قبل انفلات الوضع من عقاله. اقترح بعضهم استقالة السنيورة علّها تمنع "حزب الله" من الإمعان في غيّه، وتمنع البلاد من الانزلاق، معبّراً في ذلك عن وجهة نظر كان مفادها إن الاستقالة قد تحرج الفريق الآخر وتمنعه من تخريب البلد وبالتالي تكون الحكومة قد استقالت من دون أن تتراجع عن قراراتها خصوصاً أن الحزب قد نكث بكل العهود التي كان تعهّد بها واستخدم سلاحه في الداخل، وبذلك يصبح الحزب في مواجهة الرأي العام اللبناني والمجتمع الدولي. فيما برز رأي آخر يدعو السنيورة الى التمسك بموقفه وموقعه على رأس الحكومة، متحملاً مسؤولية ما صدر عنها لأن رئاسة الحكومة تمثل آخر موقع سيادي في السلطة لا يجوز التخلي عنها، ومجرد الاستقالة يعني تشريع الانقلاب، في وقت كان المطلوب مواجهة هذا الانقلاب والصمود في وجهه حتى آخر لحظة. قلّب رئيس الحكومة الاقتراحين فرجّح كفّة عدم الاستقالة، فيما كان موقف سعد الحريري رافضاً بصورة قاطعة لفكرة الاستقالة، في وقت كان يتعرّض لأقسى أنواع الضغوط من أهل بيروت، الذين تناوب بعضهم على الاتصال به إما مباشرة أو بالمقرّبين منه قائلين "نريد سلاحاً"، فكان جوابه للجميع: "السلاح لا يحمينا، وحدها الدولة التي تحمينا، الجيش وقوى الأمن الداخلي". وبالفعل اتّصل بوزير الدفاع الياس المرّ وبقائد الجيش (آنذاك) العماد ميشال سليمان وبمدير عام قوى الأمن الداخلي اللواء أشرف ريفي، طالباً منهم حماية أهل بيروت بكل الوسائل الممكنة: "مسؤوليتكم حماية الناس. ما يحصل عبارة عن اعتداء مباشر على المواطنين لا عليّ ولا على "تيار المستقبل".
هذه التطورات وغيرها من الاعتداءات على أهل بيروت تسارعت خلال النهار بخلاف التقديرات التي كانت لدى الحريري أو رئيس الحكومة أو الأجهزة الأمنية أيضاً. مستشار الرئيس الحريري النائب السابق غطاس خوري كان واحداً من الذين حوصروا مع رئيس "المستقبل" في قريطم: "كان تقديرنا أن العملية ستكون محدودة باعتبار أن خطاب الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصرالله كان واضح التوجّس من فتنة سنية شيعية.. وإذ به يحوّلها الى حرب شاملة ضد بيروت وأهلها ومن ثم ضد الجبل".
7 أيار كان يوماً طويلاً في قريطم. حلّ الظلام، وبعده منتصف الليل، ولم تُطفأ الأنوار في القصر. القلق يحاصر الجميع، ومعه عشرات الأفكار والهواجس. وحده سعد الحريري كان بارد الأعصاب: "حزب الله نفّذ عملية عسكرية من دون أفق سياسي، ومن دون قدرة على استثمارها سياسياً، لأنه لا يستطيع البقاء في بيروت كجيش احتلال. لماذا أنتم قلقون.. وأنت أين ضحكتك؟ الحزب فقَدَ صوابه، يجب أن ننتظر انتهاء هذه النوبة (كريزا)، أما ارتكاب أي خطأ من جانبنا فأمر لا يجوز لأنه يقود الى حرب أهلية. المهمّ أنني أرفض تحمّل مسؤولية نقطة دم واحدة..".
في السادسة من صباح اليوم التالى (8 أيار) فوجئ الحريري باتصال من المفتي قباني يبلغه خلاله أنّ مسلحين طوّقوا منزله في تلة الخياط. استدعى الحريري على الفور مسؤول أمنه الشخصي عبد العرب وطلب منه الإسراع في تحضير موكبه "لأنني أريد الذهاب بنفسي إلى منزل المفتي". ذُهل العرب وتمنّى على الحريري العدول عن الفكرة لأنّ ثمّة خطراً أمنياً محتماً عليه، سيما وأنّ الطرقات تعجّ بالمسلحين، فأصرّ الحريري على موقفه ودخل إلى غرفة نومه لتبديل ملابسه. في هذا الوقت اتصل مسؤول الأمن بمخابرات الجيش اللبناني وأبلغهم أنّ الحريري سيتوجّه الآن إلى منزل المفتي محمّلاً إياهم مسؤولية أمنه. خلال أقل من دقيقتين اتصل مساعد مدير المخابرات العميد غسان بلعه بالحريري مؤكداً له أنّه سيعالج الموضوع على الفور، فلم يأبه الحريري مؤكداً أنّه يستعد للتوجّه إلى تلة الخياط، فقال له بلعة "أرجوك يا شيخ سعد لا تتحرّك من منزلك، أنا أتعهّد لك بمعالجة الموضوع خلال دقائق. وبالفعل أعطى بلعة أمراً مباشراً للفوج المسؤول عن منطقة اقامة المفتي واتصل بضابط المخابرات المعني بالمنطقة العميد المتقاعد علي حرب، الذي توجه على الفور الى منزل المفتي واتصل ببلعة من هناك فعاود الأخير الاتصال بالنائب الحريري وأبلغه أنّ المبنى الذي يقطنه المفتي صار بعهدة الجيش اللبناني.

0 comments:

إرسال تعليق

 
تصميم وتنفيذ الادارة التنفيذية