ثر دوي الانفجار الذي أودى بحياة الرئيس رفيق الحريري في شباط/فبراير من عام 2005، توجه الصحافيون بالسؤال إلى فاروق الشرع في دمشق، وكان وقتها بصحبة ضيفه الأجنبي، ميغيل انخيل موراتينوس وزير الخارجية الإسباني. ردّ الشرع، بعد أن فوجئ بالخبر، أو ادعى ذلك، بالأسف على سقوط الضحايا دون أي ذكر للحريري!
في تفاجؤ الرجل عندها، علامة على بُعده عن الدائرة الضيقة للقرار في سوريا الأسد. وفي اغفال الرجل لذكر الرئيس الحريري، ضحية الانفجار الرئيسي، قناعة آلية لديه بأن من فعلها "هم" جماعتنا، فسارع إلى البعد عن أي استنكار قد يفهمها "هم" عداءً، فآثر كالعادة تقديم ما لا يفيد ولا يضر.
ينتمي فاروق الشرع إلى طبقة من الشخصيات التي لا تمتلك القرار ولا تمسك بأي تأثير، لكنها من خلال الدور الذي تلعبه تُسهم في منح النظام السياسي بعداً يُبعده عن الصفة الطائفية الملتصقة به.
الشرع سنيّ المذهب من عائلات درعا المعروفة، درس القانون في لندن، التصق بنظام الاسد الأب كما الابن، وأظهر ولاءً للأب، كما للابن، رفعه من منصب إلى آخر حتى عُيّن نائبا لرئيس الجمهورية، بعد مروره وزيرا للخارجية.
مسيرة الشرع، في الولاء والخارجية ومنصب النائب، تشبه مسيرة عبد الحليم خدام، الذي أوصله ولاؤه للأسد الأب إلى منصب نائب الرئيس، وسببت قلة ولائه للابن، تهميشاً وإبعاداً، وقادته إلى الانشقاق باكراً، والجهر بمعارضة النظام، وحتى التحالف مع الإخوان المسلمين في سبيل تلك المعارضة.
هذان الإسمان (الشرع وخدام) اللذان نسوقهما على سبيل المثال، يمثلان نموذجاً لحفنة من الشخصيات (لا مجال لذكرها هنا) التي عملت خلال عقود حكم الأسد على تلميع صورة النظام، وتقديمه كنظام عروبي لا طائفي، يعمل وفق مبادئ البعث ونظريات ميشال عفلق وأنوار الحركة التصحيحية.
لكن تلك الشخصيات وما يمكن أن تمثلها في الفسيفساء الاجتماعية والسياسية لسوريا، كانت تابعة لقلب النظام الحقيقي، يُنتجها ويستهلكها ويُعدل بها على هواه. ولم يكن لها عامل تأثير أو مصدر ضغط على لبّ المنظومة الحاكمة، بأجنحتها الأمنية والعسكرية والمالية والسياسية.
نقُل عن احد الدبلوماسيين السوريين قبل سنوات، انه كلما سُئل، بعيداً عن الميكروفونات والكاميرات والميدان العام، عن موقف أو سلوك، كان يقول "هم" يريدون ذلك. وكان للسُذّج أن يفترضوا ان الـ "هم" هذه عائدة لوزارة الخارجية التي يتبع الدبلوماسي مسلكيا لها. لكن الأمر ليس كذلك بالطبع. فالدبلوماسي وفي معرض تعليقه على مقابلة أُجريت مع وزير الخارجية وليد المعلم في السنوات التي تلت مأزق دمشق من مسألة اغتيال الحريري، كان يقول نحن (أي الدبلوماسيون بما فيهم الوزير) نجهد لتنظيف قذارتهم "هم".
ولا داعي هنا للتمادي في السذاجة وافتراض أن الـ "هم" هذه المرة عائدة للحكومة ورئيسها، فاولئك موظفون شكليون عند الـ "هم" الذين يحكمون سوريا.
"هم"، غرفة سرية سوداء تحكم سوريا. لا اسم ولا شكل لها. هي الوجود واللاموجود. وكأي ديكتاتورية في العالم، تحتفظ حفنة من الرؤوس بكبد القرار. خلية حكم، تتحول إلى خلية أزمة، تأخذ من الأشكال التقليدية المعاصرة للدول ملامح مصطنعة تتعرى يوميا كلما ضاق الخناق عليها.
انشق الشرع أم لم ينشق فالأمر شخصي يتعلق بظروف الرجل الفردية وامكانات ذلك في الزمن السوري الراهن. حدوث الأمر من عدمه لا يؤثر، إلا في الشكل الديكوري للنظام نفسه. انشقاق الشرع او عدمه لن يكون نصراً او هزيمة للنظام او المعارضة، ولن يبدل من المواقف الاقليمية والدولية المعروفة بشأن الأزمة في سوريا، ولن يغيّر شيئا في طبيعة الصراع الدائر بين نظام يدافع عن تسلطه حتى العدم ومعارضة تكافح بصمود من أجل الحياة.
"هم" يحكمون بالرعب والحديد والنار. قرار الموت والحياة بيدهم. "هم" يغتالون ويعتقلون ويرتكبون المجازر منذ عقود. "هم" يقررون السلم والحرب، و"هم" يقررون مصير البلد وساكنيه. وحتى حين قضى انفجار في دمشق على معظم خلية الأزمة وما فيها من قيادات أمنية، كان واضحاً أن "هم" ما زالوا ممسكين براهن البلد، فيما يهدد وجودهم وحتى اشعار آخر مستقبلها.
"هم" ضمير منفصل عن سوريا..والبلد يتحرى ضميره المتصل!
محمد قواص
صحافي وكاتب سياسي
0 comments:
إرسال تعليق