هل ثمَّة ثورة في سوريا ومصر وتونس؟
السؤال بـ "هَلْ" يُلْزِمكَ دائماً أنْ تجيب بـ "نَعَم"، أو "لا"؛ لكنَّ هذه الإجابة تُلْزِمكَ أنْ تجيب عن سؤالٍ آخر تنطوي عليه، وهو "لماذا؟"؛ فإذا قُلْتَ في إجابتكَ "نَعَمْ، ثمَّة ثورة"، أو "لا، ليس ثمَّة ثورة"، فإنَّ عليكَ أنْ تشرح وتعلِّل وتُفسِّر وتُعدِّد الأسباب والحيثيات.
وثمَّة مثقَّفون قوميون يساريون (لا أُشكِّك في صدقية عدائهم للإمبريالية وإسرائيل، وحتى للرأسمالية في بلادنا) لم يجيبوا عن هذا السؤال بـ "النَّفي"، لا بَلْ لم يُثيروه ويَطْرحوه، إلاَّ بعدما ضَرَبَت أمواج "الربيع العربي"، وبقوَّة، سوريا، أيْ نظام حكم بشار الأسد؛ فلماذا هذا التأخُّر في إثارة وطرح السؤال، وفي إجابته، من ثمَّ، بـ "النَّفي"، وإنْ علَّلوا إجابتهم هذه بما يكفي لإظهار هذا التعليل على أنَّه مُفْتَقِرٌ إلى الموضوعية، ويَعُوزه الوضوح في مفهوم "الثورة" الذي شرحوه.
"الربيع العربي" ليس في جوهره، ودوافعه، ومطالبه، وشعاراته، وغاياته، ثورة ضدَّ الرأسمالية القومية في السَّاحات والبلاد التي شملها، وليس بثورة تقودها البروليتاريا، أو تشارِك فيها بصفتها "الطبقية"؛ حتى صفة "الثورة الاجتماعية" ليست بصفة جوهرية أساسية له؛ لأنَّ مطلب "العدالة الاجتماعية" الذي نادى به ليس بمطلب يمكن أنْ يُفْهَم على أنَّه ضدَّ الرأسمالية، جوهراً وأساساً.
وبعد، وبسبب، إفلاس وانهيار "النموذج السوفياتي"، الذي صُوِّر للناس كافة على أنَّه النموذج الاقتصادي والاجتماعي والسياسي الاشتراكي، أو الشيوعي، الذي فيه، وبه، تُنْفى الرأسمالية، ما عاد لدى الناس المعادين للرأسمالية من تَصَوُّرٍ واضحٍ للبديل التاريخي من هذا النظام الذي يرتفع فيه، في استمرار، منسوب الوحشية.
ووصف "الربيع العربي" بأنَّه "ثورات شعبية" لا يعني، من وجهة نظري، إلاَّ شيئاً واحداً هو أنَّه ثورات تتَّسِم بطابع شعبي؛ فإنَّ مئات الآلاف والملايين من المواطنين نزلوا إلى الشوارع، وشاركوا في هذه الثورات؛ وهذا الطابع الشعبي، الذي لا يمكن إنكاره، لا يعني، ويجب ألاَّ يعني، أنَّ "نتائج" ثورات "الربيع العربي" ستأتي متَّفِقة تماماً مع المصالح الحقيقية للشعب الذي شارك فيها، وصنعها؛ فالتاريخ يشهد على تعرُّض كثير من الثورات الشعبية (وحتى الثورات البروليتارية) للسرقة والاغتصاب والغدر والخيانة.
لكنَّ "الربيع العربي" لا يمكن إخراجه من سياق "الثورات الديمقراطية البرجوازية"، بدعوى أنَّ زمانها، أو عصرها، قد ولَّى وانقضى؛ فشعوبنا التي تتضوَّر جوعاً إلى ديمقراطية من نمط الديمقراطية البرجوازية، أو تشبهها، تُدْرِك، من الوجهة الاجتماعية والاقتصادية، أنَّها لن تَعْرِف من الرأسمالية مستقبلاً (وعلى الرُّغم من ثورات "الربيع العربي") ما يختلف، نوعاً وجوهراً، عن الرأسمالية التي عرفتها منذ زمن طويل، والتي عانت منها أشد معاناة؛ فالرأسمالية التي عرفها الغرب لن تكون أبداً مستقبل التطوُّر الرأسمالي في مجتمعاتنا العربية الشرقية؛ كما تُدْرِك أنَّ كل ما تختزنه من عداء للرأسمالية عندنا لم يُتَرْجَم، حتى الآن، بما يَصْلُح اعتباره تَصَوُّراً جديداً جيِّداً للنظام الاجتماعي والاقتصادي البديل من النظام الرأسمالي؛ وهذا ما يَجْعَل عداءها (الصريح تارةً، والمستتر طوراً) للرأسمالية سلوكاً غريزياً في المقام الأوَّل؛ وإنَّي لأرى في ذلك فشلاً نظرياً وفكرياً للمثقفين الثوريين اليساريين المعادين للرأسمالية.
ولو تحلَّى أعداء "الربيع العربي"، من المثقفين القوميين اليساريين، بشيء من الموضوعية في النَّظر والتقويم والحُكْم لاكتشفوا أنَّ عصر الثورات الديمقراطية البرجوازية لم ينتهِ بَعْد، ولاتَّخذوا من اندلاع ثورات "الربيع العربي" دليلاً عملياً وواقعياً على عدم انتهائه.
إنَّني لا أفهم، ولا يمكنني أنْ أفهم، سقوط نظام حسني مبارك في مصر إلاَّ على أنَّه ضربة قوية وفي الصميم لإسرائيل وللقوَّة الإمبريالية العظمى في العالم، التي لا يمكنني أنْ أفْهَم ما تبديه من انتصار وتأييد لـ "الربيع العربي"، أو لبعضٍ منه، إلاَّ على أنَّه محاولة (قد تنجح أو تفشل) لركوب هذا الحصان، وتسييره (قدر الإمكان، أو ما استطاعت إلى ذلك سبيلاً) في المسار الذي لها مصلحة في أنْ يسير فيه؛ وهذا إنَّما يُرتِّب على الثوريين مسؤولية أنْ يسعوا في إحباط هذه المحاولة، لا أنْ يُظْهِروها على أنَّها دليل، أو خير دليل، على أنَّ "الربيع العربي" ليس بثورة شعبية، وأقرب إلى "المؤامرة (الإمبريالية)" منه إلى الثورة.
وعليهم، في المثال السوري، أنْ يُميِّزوا عداء قوى دولية وإقليمية معيَّنة لنظام حكم بشار من صداقة هذه القوى نفسها (أو بعضها) للثورة السورية؛ فهذه القوى، والتي لها حلفاء من السوريين المعادين لنظام حكم بشار، ليست نصيرة للثورة السورية (على الرُّغم من كل ما تزعمه من نصرتها في مواقفها المعلَنَة) بل معادية لنظام حكم بشار، الذي ليس من ذَنْب الثورة السورية أنَّ له أعداء غير شعبه.
وعليهم، أيضاً، وفي المثال نفسه، ومن غير أنْ يتخلُّوا عن كثيرٍ من حُجَج العداء للثورة السورية، أنْ يُعْلِنوا أنَّ نظام حكم كنظام حكم بشار الأسد جدير بالسقوط، وأنَّه في حدِّ ذاته يكفي سبباً لثورة شعبه عليه، ومهما سعت قوى دولية وإقليمية في تسيير رياح هذه الثورة (الشعبية، النبيلة الصادقة في دوافعها وغاياتها) بما تشتهي مصالحها وأهدافها التي لن تنزل برداً وسلاماً على الشعب السوري وثورته؛ أمَّا أنْ يكون حرصهم على بقاء نظام حكم بشار هو الدَّافِع الحقيقي لعدائهم المُعْلَن للثورة السورية، وللإساءة إلى سمعتها، فهذا ما لا يمكن قبوله؛ ولو أنَّهم سألوا عن السبب الذي يَحْمِل حكومة عربية كحكومة المالكي في العراق على تأييد نظام حكم بشار، لتوصَّلوا إلى إجابة أفضل عن سؤال "لماذا يبدو سيِّد حكومة المالكي، وهو الولايات المتحدة، نصيراً للثورة السورية؟".
والثوريون العرب، وعلى ما أرى، لا يمكنهم إظهار وتأكيد ثوريتهم إلاَّ من طريق إظهار وتأكيد عدائهم لنظام حكم بشار، وانتصارهم للثورة السورية انتصاراً نَقْدياً، ووقوفهم ضدَّ كل محاولة تبذلها قوى إمبريالية غربية لاستثمار هذه الثورة في ما يخدم مصالحها وأهدافها الإمبريالية، ولو كان العداء لنظام حكم بشار يكمن في هذه المصالح والأهداف.
إنَّ كل انتقاد للثورة السورية لا ينطلق من عداء أصحابه لنظام حكم بشار، ومن دعوتهم الصريحة إلى إطاحته، لا يمكن فهمه وتفسيره إلاَّ على أنَّه جزء لا يتجزَّأ من الصراع الذي يخوضه نظام الحكم هذا من أجل البقاء، أيْ من أجل بقاءٍ لا يبقي على شيء من سوريا التي يدَّعون الحرص عليها.
جواد البشيتي
0 comments:
إرسال تعليق