الخميس، 4 أكتوبر 2012

حلب... رحلة العبور فوق الجثث

الداخل إلى مدينة حلب أو الخارج منها، لا تشغله أصوات الرصاص والقذائف بقدر ما يشغله إحصاء عدد الجثث الملقاة على جانبَي طرقاتها الرئيسة وحتى الفرعية، الأمر الذي يدعو البعض إلى تشبيهها بمدينة ليننغراد الروسية التي حاصرها جيش هتلر 872 يوماً، فأوقع فيها أكثر من 50000 قتيل مدني معظمهم من الأطفال والنساء. في حلب لا يذهب الأطفال إلى مدارس تحولت في معظمها إلى معتقلات، وما تبقّى منها حوّلته قذائف طائرات الميغ 27 بمحتوياته إلى ركام لا يصلح إلّا لتشييد المتاريس. في حلب يذهب الأطفال إلى السماء حيث يتوافدون إليها زرافات زرافات تحت أعين أمهات أضناهنّ فراق الزوج والأبناء، فقرّرن توجيه رسائل شفوية إلى ربّ يشكين إليه مصائب حلّت بهنّ، ويفوّضنه أمورهنّ ويسألنه الرحيل إلى جواره لملاقاة فلذات أكبادهن."المعارك الشرسة التي تشهدها مدينة حلب هي التي ستقرّر مصير الشعب السوري والأمّة"... الكلام للرئيس السوري وقد تُرجم عملياً على أرض الواقع من خلال المشاهد المرعبة لجثث الأطفال والنساء والرجال المتفحمة والمنتشرة بين أزقة حلب وضواحيها.بهذا الانطباع عاد أحد السياسيين المعتادين على زيارة سوريا باستمرار، فيَروي ضمن مجالسه الخاصة حجم الدمار الذي رآه بأم العين، ومدى الخوف والذعر اللذين شاهدهما في عيون المواطنين. فيقول: "لدى وصولي إلى الأراضي السورية، أبى احد ضباط المخابرات إلا أن يرسل معي عنصرين بهدف حمايتي من أي مضايقة بحسب ما ادّعى، لكن ما اكتشفته لاحقاً، هو أن هدفهما منع الناس من إطلاعي على ما يحدث في مدنهم"، ويشير إلى أن "الاطمئنان على أصدقاء لي في حلب كان العنوان الرئيسي لزيارتي هذه، لكن المفاجأة كانت أن بعضاً منهم قد انتقل إلى عالم آخر بالتأكيد لا يشبه العالم الذي رأيته في حلب". ويضيف الزائر: "إنّ أحد العنصرَين هو الذي تولّى قيادة سيارتي بدلاً من سائقي الخاص. والمخيف في هذا الأمر، أنه كان يمر فوق معظم الجثث المنتشرة كحبّات الفطر داخل مناطق حلب، مثل السليمانية والسيد علي وحي مساكن هنانو وغيرها من المناطق التي كانت تكتظّ عادة بالسكان، وعندما اعترضت على تصرفه قال: "ماشي الحال سيدي هنّي مو حاسّين بشي". وعندما سألته إلى من تعود تلك الجثث أجاب: "والله اختلط علينا الأمر، فلم نعد نستطيع التمييز بين جثث العصابات وجثث شهداء الجيش النظامي". ويخبر الزائر أنّ الطائرات الحربية بدأت في تلك الأثناء تُحلّق فوق رؤوسنا، وعندما سألت عنصر الأمن هل يدركون بأننا هنا، أجاب: "أكيد سيدي، هم يعرفون كل شاردة وواردة"، هنا سأله مرافقي: "كيف ذلك ورأينا بأم أعيننا جثث الأطفال الموزعة على الطرقات، حتى أنك عبرت على بعضها أثناء قيادتك؟ لكنّ نظرة غضب من العنصر كانت كافية لإنهاء الحديث حول هذا الأمر". ويتابع الزائر: "عندما دخلت منزلاً يعود إلى أصدقاء كنت تعرفت اليهم في العام 1990، يوم كنت أحاضر في حلب عن العلاقة التي تجمع بين لبنان وسوريا، كانت الصدمة شديدة، إذ أخبرتني والدتهم العجوز، أن ولدها الأكبر عمر قتل مع زوجته وطفلته على يد مسلحين لم نعرف الجهة التي ينتمون اليها، أما أولادها رامي ولؤي، فلم تعرف عنهما أي معلومة، منذ أن قررا مغادرة سوريا عبر الأردن". ويكشف أنّ مجموعة من المسلحين كانوا قريبين منّا، "فصافحني أحدهم قائلاً بلهجة لبنانية جنوبية: كيفك أستاذ؟... سألته هل أنت لبناني؟ أجاب بالنفي: "أنا ولدت في لبنان وأمضيت حياتي فيه"، عدت وسألته في أي منطقة، أجاب: بيروت"."طريق العودة من حلب لم يكن مغايراً لطريق الذهاب"، هكذا يصف الزائر نهاية رحلة الموت، فهناك جثث على الأرض قد داس السائق مجدداً على معظمها وهو يقول: "إذا كانوا شبيحة الله يحرقهم، وإذا كانوا من الجيش الله يرحمهم، يا أستاذ ما عدنا نعرف مين الشبيحة ومين النظاميين". تدمع عينا الزائر وكأنه يريد أن يعلن أمراً ما يكتمه في داخله، لكنه يؤكد أنّ "في حلب لم تعد الجدّة تروي لأحفادها قصصَ ما قبل النوم، فالعام الدراسي قد بدأ ومعه بدأ الأطفال بالوصول باكراً إلى السماء على أن تكون الحصة الأولى تحت عنوان: حلب محرقة الأطفال".

0 comments:

إرسال تعليق

 
تصميم وتنفيذ الادارة التنفيذية