باشر الحرس الثوري غداة انتصار الثورة، إنشاء نواة الأمة في لبنان (أمة حزب الله) من مصادر متنوعة، شيعية بطبيعة الحال والضرورة: حركة أمل، حزب الدعوة، خمينيون. وقد تمّ الإنشاء على ترتيب إمامي صارم. هذا ويقوم مجتمع حزب الله على منظومة من الوصل والضبط والربط، يقف الحزب على رأسها، وتحاول أن تحيط بكل وجوه حياة الجماعة: هيئات علمائية ومعاهد دينية، أكثر من مؤسسة خاصة بأسر الشهداء وبدعم المقاومة، منظمات كشفية وشبابية، مؤسسات صحية، منتديات ثقافية ورياضية، مؤسسات تعليمية، رابطات مهنية ونقابية.
ينم ذلك كله عن نفوذ إيراني كبير في البيئة الشيعية اللبنانية، من خلال جهر تلك المؤسسات والهيئات، كل واحدة على رسمها وطريقتها، بالولاء لوليّ الأمر، ومن خلال إمدادها بأموال تقع تحت يد وليّ الأمر أو وكلائه. بيد أن تلك الإحاطة لا ترمي، من وجهة نظر البحث، إلى مساعدة أفراد المجتمع على ترسيخ أقدامهم في حياة عادية، بل ترمي إلى توثيق ارتباطهم بأصل ثابت هو فكرة الحرب، تحت راية معينة. "فما تلك الهيئات المختلفة إلاّ فروع متفرعة عن أصل واحد هو الثورة الإسلامية، أو المقاومة الإسلامية، أي الحرب، ووظيفتها الأساسية هي أن تخفف بعض نتائج الحرب أو تمدها بوقود جديد".
سعت الإدارة السياسية الخمينية في لبنان إلى بعث سلك العلماء وتجديده من بعد أفول واضمحلال، ونجحت في ذلك إلى حد بعيد. فبذلت المال لمن يحتاجه من طلبة ومدرسين، وكثّرت المدارس والحوزات الدينية، ونصبت مثالاً لرجل الدين يقوم على التغلغل في الحياة الاجتماعية اليومية، وانصرفت عن العائلات الدينية القديمة التي استنكف أبناؤها عن طلب العلم لتستخرج طلبة وعلماء من عائلات ومناطق لا عهد لها سابقاً بالعلم الديني، سابغةً على هؤلاء شأنية عالية. ومع انتقال شيعة كثر من الأطراف والأرياف إلى العاصمة وضاحيتها الجنوبية نقلت الإدارة الخمينية شطراً كبيراً من نشاطها ومؤسساتها إلى المكان الجديد.
ما بين منتصف الستينيات ومنتصف السبعينيات شكلت ضاحية بيروت الشرقية (النبعة – برج حمود والدكوانة...) ملاذ عمل وإقامة لكثير من الشيعة الجنوبيين والبقاعيين، إلى جانب أرمن ومسيحيين وفلسطينيين، إلى زمر عمالية أجنبية غير مستقرة (من سوريين ومصريين وبعض الآسيويين). بقيت الجماعات الشيعية تلك على حال يصدق فيها التجاور أكثر من الاختلاط. فلم تنفذ علاقات العمل والإقامة إلى قلب الجماعات لتسوّيها على مثال مختلف عن مثال القرابة العائلية ومسقط الرأس، فاقتصر العمل على تحصيل المعاش، والإقامة على التجاور.
هذا بالرغم من اتصال كثرة من أفرادها بنقابات وأحزاب سياسية حديثة، إن بحكم كثرة الحرفيين والشغيلة من أبنائها، أو بحكم عراقة بعض الأحزاب السياسية في الأوساط الشيعية، من مثل الشيوعي اللبناني والبعث العربي الاشتراكي والسوري القومي الاجتماعي، إلى منظمات المقاومة الفلسطينية بعد العام 1969.
يستعيد الخميني، على طريقته، كلمة ماوتسي تونغ الشهيرة بأن "الحزب من الجماهير كما السمكة من الماء"، فيدعو (الخميني) مريديه إلى استقطاب "كل الجماهير" وإلى اتخاذ الشعب بكل قواه "قاعدة رصينة" يركنون إليها. وقد سعى الدعاة الخمينيون في لبنان إلى التوحيد بين أنفسهم وبين جمهور المسلمين (الشيعة والسنة كلاماً، والشيعة فعلاً).
بيد أن هذين "التوحيد" و"السباحة في ماء الجماهير" يفترضان وجود دورة حياة يومية متصلة بين محطات أو حلقات معروفة، مثل الإقامة والمعاش والتعليم والعبادة والعِشرة والجوار. والحال أن الحروب، ما بين 1975 و1990، قوّضت معظم ما بنته الجماعات اللبنانية، ولا سيما الجماعة الشيعية، من أبنية اجتماعية تنهض عليها دورة الحياة.
شكل المسجد منطلق عمل النَّوَيات الأولى للحركة الخمينية في لبنان، قبل أن يصبح مركز أرض محررة لمجتمع خاص ومعقل. وقد تم الانتقال وفق آلية تكاد تكون نموذجية ونمطية في واقع الحرب اللبنانية: يتخذ الداعية الخميني، أكان لبنانياً أو إيرانياً أو عراقياً، من المسجد مركزاً لدعوته ولقاء مريديه، ومن بعض ملحقات المسجد مسكناً لأسرته. ثم لا تلبث اهتمامات المسجد أن تتسع لتشمل، إلى الصلاة والإرشاد والتوجيه، كثيراً من شؤون الناس المقيمين في دائرته البلدية أو المحلية، من تسوية خلافات، وإدارة مرافق مشتركة، وأعمال إغاثة وتوزيع مساعدات (جراء المعارك والتهجير)، إلى اهتمام بأوضاع أصناف خاصة من الناس، من مثل المهجرين والجرحى وأسر الشهداء وغير ذلك... ومن البداهة وحسن التدبير أن يقوم على كل من تلك الاهتمامات والأنشطة لجنة متخصصة، ترتبط بلجنة المسجد العامة، التي مرجعها ومآلها إلى صاحب الدعوة، الذي لا يعدم صلة مباشرة بالجهاز الخميني المركزي في لبنان وصندوق عطائه.
نجح حزب الله في إنشاء حركة شيعية وأهلية، تجمع القتال إلى السياسة، والعلنية إلى السرية، والشاهد إلى الغيب. وهو ينسب نجاحه هذا إلى قوة إيمان جماعته وجهادهم ومعاهدتهم (تولّيهم الوليّ الفقيه). أي ينسبه إلى ثلاثة عناصر تُردُّ جميعاً إلى واحد منها هو "الوليّ الفقيه"؛ لأن أي تكليف إنما مرجعه إلى هذا الأخير، كما مرّ معنا. وهو إلى ذلك عنصر مدخول، أي غير لبناني.
والحال كذلك، يكون ما نجحت فيه القيادة الإيرانية، على وجه الدقة والتحديد، هو انتزاع مشايعي الدعوة الخمينية في لبنان من أهلهم ومألوف خطتهم في العيش، ليهاجروا في الدعوة وإليها، مسلمين أمرهم إلى تلك القيادة على نحو ما "يُسلم الميتُ جسده بين يدي الغاسل". هذه "الهجرة" أو "الاغتراب" تكاد تجعل منهم جسماً "مدخولاً" في المشهد اللبناني الأصلي، أي المشهد العادي بعيداً عن التشظّي، رغم حضورهم المدوي فيه، ورغم انتزاعهم حق التحدث باسم شريحة كبيرة من مكوناته. هذا وقد "وقفوا" أنفسهم، بالمعنى الديني للوقف، على استعمال مخصوص هو "خدمة سيّدين"، على ما ارتسم أعلاه في رأس الفصل، وعلى ما سيأتي.
تلك أزمة هوية وانتساب، أو "اشتباه هوية وانتساب"، لا يبدّده حرص بعض القيادة على تصوير منظمتهم بصورة الحركة السياسية العادية. فما مظاهر العادية إلا تجليات "النزول على أحكام الضرورة" (البراغماتية)، فيما يبقى الشطر الأساس من المنظمة شطراً "وجهه إلى داخلٍ لا يُقتسم مع المجتمع المشترك". فإذ يعبّر أحد قادتهم عن "انتسابهم إلى الدولة اللبنانية" وعن "تمسكهم بأرضهم وبحقوقهم فيها"، فإنما على اعتبار هذه الدولة "مساحة أرض وأفراد شعب"، من دون أن يرقى تعريف الدولة إلى الرابطة السياسية والوطنية.
0 comments:
إرسال تعليق