
لطالما كان موقف القيادة الإسرائيلية الراسخ هو: الضغط على النظام السوري لتغيير مواقفه وتحالفاته، دون إسقاطه. فهمَ النظام السوري -منذ ما بعد حرب العام 1973- هذه المعادلة؛ فبّرد حدود الجولان، وأزعج "إسرائيل" من خلال إشعال جبهات أخرى.
من وجهة النظر الإسرائيلية، فإن عدواً تعرفه خير لك من عدو تجهله، وإن نظاماً يحترم قواعد اللعبة أفضل من فوضى أو نظام يشعل حدود الجولان الهادئة أكثر من أي جبهة أخرى لـ "إسرائيل" مع دول الطوق. هذه المفاضلة ليست سراً يُكشف للمرة الأولى، ولكنها كانت موضوع الصحف الإسرائيلية المختلفة منذ اندلاع الثورة السورية في 15/3/2011.
وعلى سبيل المثال لا الحصر؛ كتبت جانين زكريا، مراسلة "واشنطن بوست" في "إسرائيل" مقالاً في 31/3/2011، تحت عنوان: "إسرائيل تفضل بقاء الأسد"، قالت فيه: "إسرائيل دأبت على الشكوى من تحالف الرئيس السوري بشار الأسد مع إيران... حافظ الأسد كوالده يحافظ على هدوء الحدود السورية الإسرائيلية كأهدأ جبهة إسرائيلية لعقود، الأمر الذي مكّن سكان شمال سورية من العيش في رخاء في جو من السلام النسبي على الرغم من كون الدولتين من الناحية التقنية في حالة حرب". ونقلت عيسى عن لسان وزير في حكومة نتنياهو القول: "نحن نعرف الأسد، وعرفنا والده، ونحن بطبيعة الحال نود أن تكون جارتنا سورية دولة ديمقراطية... نحن نعلم أن هناك ديكتاتوراً، لكن رغم ذلك فإن الأوضاع كانت هادئة". بعد ذلك بيوم واحد؛ نشرت صحيفة هآرتس العبرية (1/4/2011) مقالاً تحت عنوان: "الأسد ملك إسرائيل"، حيث ورد في المقال: "إن كثيرين في تل أبيب يصلّون من قلوبهم للرب بأن يحفظ سلامة النظام السوري، الذي لم يحارب إسرائيل منذ عام 1973 رغم شعاراته المستمرة وعدائه الظاهر لها"... والمواد المشابهة التي أوردتها الصحافة العبرية منذ منتصف آذار الماضي إلى اليوم يصعب حصرها، فضلاً عن عرض ذلك في مقال واحد.
انطلاقاً من هذا التقييم؛ سكتت "إسرائيل" عن دخول الدبابات السورية إلى مناطق: نوى، وتسيل، وجاسم، والحارّة في حوران، المتاخمة للجبهة السورية- الإسرائيلية، التي تمنع الاتفاقية رقم 350 لمجلس الأمن بتاريخ 13/5/1974 -والتي تعمل قوات UNDOF بموجبها-، (تمنع) الجانب السوري من إدخال آليات ثقيلة إليها!. وانطلاقاً من هذا التقييم أيضاً رفضت "إسرائيل" الموافقة على إدانة النظام السوري على جرائمه في لجنة حقوق الإنسان في الجمعية العامة للأمم المتحدة في 22/11/2011، حيث حصل قرار الإدانة على 122 صوتاً مقابل اعتراض 13 دولة –وليس الامتناع عن التصويت- أبرزها: إيران وكوبا وفنزويلا و"إسرائيل" (علق أحد السياسيين الظرفاء بالقول: "إسرائيل" انضمت إلى محور الممانعة بقرارها هذا)!.
وانطلاقاً؛ من هذه المصلحة الإسرائيلية، تحرك اللوبي الإسرائيلي -وما يزال- للحد من الاندفاع الأميركي لتغيير النظام، كما سمحت السلطات الإسرائيلية بتنظيم تظاهرة في القدس المحتلة تأييداً للنظام السوري (19/11/2011)، وتوج ذلك كله التصريح الشهير لرئيس الهيئة الأمنية والسياسية بوزارة الدفاع الإسرائيلية عاموس جلعاد (16/11/2011) الذي اعتبر فيه أن "سقوط نظام الأسد سيترتب عليه حدوث كارثة تقضي على إسرائيل، وذلك نتيجة لظهور إمبراطورية إسلامية في منطقة الشرق الأوسط بقيادة الإخوان المسلمين في مصر والأردن وسورية".
وقبل أيام (11/12/2011) اعتبر وزير الدفاع الإسرائيلي أيهود باراك أن سقوط نظام الرئيس السوري بشار الأسد سيكون "نعمة" لمنطقة الشرق الأوسط وضربة لـ "محور إيران-حزب الله"، وأضاف خلال مؤتمر في فيينا, "لا يمكننا التكهن بما سيحصل لاحقاً. وفي أي حال سيكون (سقوط النظام) ضربة موجهة إلى محور إيران-حزب الله".
ومع أن تصريح باراك هذا استعمل من قبل النظام السوري وحلفاؤه في لبنان باعتباره دليلاً على وجود مؤامرة على سوريا (مع أن الفريق نفسه أهمل المعطيات السابقة كلها في حينه)، إلا أن التدقيق في موقف باراك الجديد، لا يفيد تحولاً في الموقف الإسرائيلي من النظام السوري، ذلك أن خصوم النظام السوري وحلفاءه على السواء؛ يتفقون على أن سقوط نظام الأسد هو "ضربة لمحور إيران-حزب الله"، لكنهم يختلفون في توصيف ما يجري في سوريا، فترى معظم الشعوب والحكومات أن ما يجري هو ثورة شعبية مخذولة من العالم حتى الآن، فيما ترى إيران والنظام السوري وحلفاؤهما أن ما يجري هو مؤامرة من العالم على سوريا بسبب "ممانعتها".
على أن موقف باراك الجديد لا يختلف في توقعه نهاية النظام السوري عن موقف سابق له أطلقه في 2/8/2011 حيث قال: "يمكن للأسد أن يصمد لأسابيع، لكنه غير قادر على البقاء لفترة طويلة"، لكنه أضاف في حينه: "الإطاحة به ليست تطوراً إيجابياً لصالح إسرائيل". وتعقيباً على تصريحات باراك الجديدة أكد ضباط كبار في المؤسسة العسكرية لإذاعة الجيش الإسرائيلي أن "الجيش يراقب بحذر شديد الأحداث الجارية في سوريا، وسط تخوفات من إمكانية صعود تيارات دينية معادية لإسرائيل كما هو الحال في مصر، وأن نظام الأسد كان معادياً لإسرائيل، ولكن الحدود مع سوريا طوال الفترة الماضية شهدت هدوءاً قد ينتهي مع سقوط النظام الحالي".
واللافت في موقفي باراك؛ التفرقة بين تمني بقاء الأسد، باعتبار ذلك مصلحة لـ "إسرائيل"، (أجرت صحيفة يديعوت أحرونوت في 15/10/2011 استفتاءً خلصت من خلاله إلى "أن 85% من الإسرائيليين يعتبرون بقاء الأسد لمصلحة إسرائيل"!)، وما بين السعادة بـ"ضرب محور إيران-النظام السوري-حزب الله"، (أعلن نائب رئيس وزراء العدو موشيه يعلون في 12/12/2011 أن: "سقوط الأسد ضربة قاسية لمحور الشرّ. إنّها مسألة وقت حتى يرحل الأسد").
ولعل قائلاً يقول إن رئيس المجلس الانتقالي السوري برهان غليون بادر إلى إعلان نية المعارضة قطع علاقة سوريا بإيران بعد انتصار الثورة، وأنه سيعتمد المفاوضات سبيلاً لاسترجاع الجولان، وقد استنتج المدافعون عن نظام الأسد من هذا الكلام؛ أن النظام البديل سيكون خائناً، على طريقة السيد حسن نصر الله الذي قال في خطاب عاشوراء "إن الولايات المتحدة تسعى لإيجاد نظام بديل يوقع الاستسلام لإسرائيل".
والجواب عن هذا "الاستفهام" بسيط، وينطلق من تصريحات باراك نفسه (الإطاحة به ليست تطوراً إيجابياً لصالح إسرائيل)، إضافة إلى السلوك الإسرائيلي المتقدم ذكره، لكن الأهم؛ أن بقاء أو رحيل النظام السوري ليس بيد "إسرائيل" ولا غيرها، وإنما بيد الشعب السوري، ومع أن تصريحات غليون غير ملزمة لاحقاً للشعب السوري، ومع أننا قد نشهد لاحقاً بعض "الغزل الإسرائيلي" في محاولة تحييد أية متغيرات في سوريا عن أمن "إسرائيل"، ومع أنه قد يحدث تسخين لحدود سوريا أو لبنان مع فلسطين المحتلة كورقة أخيرة يستعملها النظام قبل سقوطه... مع ذلك كله، فإن العدل يقتضي ممن يعتبر النظام القادم خائناً أن يقول لنا هل اعتمد النظام الحالي غير المفاوضات أساساً لاسترجاع الجولان؟! وهل أطلق رصاصة واحدة دفاعاً عن الفلسطينيين الذين أرسلهم مؤخراً -مرتين على التوالي- إلى الجولان تنفيذاً للمعادلة –الفضيحة، التي أطلقها ابن خال الرئيس وشريكه رامي مخلوف: "لن يكون هناك استقرار في إسرائيل إذا لم يكن هناك استقرار في سورية" (11/5/2011)؟. وهل استحى بشار الأسد أصلاً من التفاوض مع "إسرائيل" في العام 2006 أثناء حرب تموز على لبنان؟! ألم يسمع العالم من بشار الأسد نفسه أن "سوريا تريد التفاوض مع إسرائيل بشأن الجولان". وهل انتبه محامو الدفاع عن النظام السوري أن الجولان المحتل هو اليوم من أكثر المناطق التي تريد رحيل النظام؟
بقلم فادي شاميه
0 comments:
إرسال تعليق