الجمعة، 13 أبريل 2012

تخريفولوجيا


يبدو الأمر غريبا لمن يتابعون الأحداث التي تجري في العالم ، فهم يرون تناقضا عجيبا بين تكنولوجيا كشف أسرار الخلايا البشرية واختراع مئات آلاف الدوائر الكمبيوترية المدمجة والتي تُلغي كل إنتاج سبقها بدقائق معدودة ،و عصر التحكم حتى في أنواع الجينات، إلى (تخاريف) ظهور صور مريم العذراء فوق الكنائس في القاهرة ، وميلاد أطفال وعلى أرجلهم آيات من القرآن بلون قرنفلي في مدينة كيزلر في روسيا ، إلى عودة ظهور التيوس التي تدر الحليب المقدس الشافي من كل الأمراض، إلى شائعة الجنين الذي يرتل القرآن في بطن أمه ، إلى استبدال الأطباء بزيارة عظام القبور والتمرغ فوقها لغرض الشفاء من الأمراض والعلل، كما يفعل كثير من أتباع الحاخام كادوري من طائفة الحارديم المؤمنين بالمعجزات والسحر !

والغريب أن المخرفين والمهرطقين ومن في حكمهم من أدعياء السحر وقراء الكف يمتهنون الأديان التي ينتسبون لها ، ويسيئون لها ، فهم يبثون رسالة مغرضة باسمها تقول :

" الشعوذة والسحر والتخريفات هي التي تُثبت صحة أديانكم وتؤيدها وتقويها وتدعمها " !

وما أزال أحفظ منذ الصغر خرافة الشيخ الشعراني السوري التي حكاها أحد مدرسيّ ، هذا الولي الصالح كما قال مدرسي اعتاد أن يغلق دكانه قبل الظهر ثم يختفي ليصلي الظهر في الجامع الأبيض بالرملة !

إنها بحق ألفية عجيبة تمثل نقيضين ليسا متنافرين فقط، بل هما غريبان وعجيبان ويحتاجان إلى دراسة ووعي ، فالألفية من جهة ألفية إبداع تكنولوجي، ومن جهة أخرى ألفية (تخريفولوجي) !

ما السبب ؟

إن السبب يعود بالضرورة إلى هذا الالتصاق الشديد بين الدول والأقطار لدرجة أن سكان قارة إفريقية أصبحوا يشعرون بنبضات قلوب سكان قارة آسيا بفضل تكنولوجيا المعلومات، يشاركونهم حياتهم ويستمتعون بمسلسلاتهم التلفزيونية كما أن أبناء القارتين أصبحوا يستثمرون نقودهم في قارة أوروبا الثالثة ! وهذا الاقترابُ من وجهة نظر الدارسين ، ليس اقترابا حميدا كما يُظن ، بل هو اقتراب (الابتعاد) وامتزاج الاغتراب ، فهذا التقارب الإعلامي يولد تنافرا روحيا ، ويعمق الأحقاد ويرسخ الإرهاب ، فعندما يسمع الفقراءُ ويرون على شاشات التلفزيون حياة الأغنياء وتبذيرهم في اللحظة ذاتها، فإنهم يصابون بالإحباط ويهربون من واقعهم الأليم إلى حيث عالم الطلاسم والأسحار والترهات والتعاويذ ، لعلهم يشعرون بوجودهم عندما يمارسونها أو يعتقدون فيها وينشرونها !



كما أن المقهورين الفقراء الجاهلين العاجزين وهم في حالة الهروب من الواقع المؤلم يلجؤون للخرافات التي تعتمد العواطف ، وتُقصي العقول بعيدا لعلهم يشعرون وهم في عالم أحلام الخرافات بأن لهم شأنا عظيما ومستقبلا باهرا ، وأن الأغنياء المخترعين المتفوقين من رواد عصر العولمة سيُهزمون لا محالة على أيدي مروجي الخزعبلات ممن يتنبؤون تارة بنهاية العالم وطورا بوقوع الكوارث والزلازل ، وهي أحلام كثير من المقعدين العاجزين وزبائن الترهات والتخاريف !.

وفي مقابل هذا السبب ، هناك سبب آخر أسميه السعي (لاحتكار) إنتاج الفكر المربح ، من قبل دول كثيرة ، وعدم استثمار المشروعات لتطوير الدول الفقيرة علميا واقتصاديا وفكريا ، وهذا الاحتكار الجديد أسهم في تعميق الفجوة بين دول التكنولوجيا ودول التخريفولجيا ، وحوّل البعد من بُعد جغرافي إلى (فجوة حضارية) واسعة الأبعاد ، وتحولت دول الخزعبلات إلى منافي للعقول المبدعة وسجون للمفكرين ومعازل للراغبين في الحياة ، وأصبح إنتاجها الرئيس وثروتها الطبيعية هو خام الخرافات المصنوع من فلزات الماضي البائد وحديد عظام الأجداد وبترول الأباطيل والكامن في مناجم الإرهاب والعنف .



يضاف إلى ما سبق إلى سبب آخر وهو رغبة الحكام في الأقطار التي يقودها حكام ديكتاتوريون ممن يرغبون في تعزيز سطوة الديكتاتورية السياسية وإطالة حكمهم بواسطة تعزيز الجهل ونشر الخزعبلات التي تُطيل فترة صلاحية الحكام باعتبارهم مفوضين من السماء لا من الأرض ،

وإذا أضفنا إلى ما سلف مطاردة المثقفين (بكسر القاف) ومحاربتهم وتحويلهم إلى صور وهياكل إعلامية واحتكار المنتجات الثقافية وتحويل هذه المنتجات إلى سلع تجارية باهظة الكلفة فقد أصبح سعر الكتب يوازي سعر جهاز إلكتروني، فإننا نكون قد جمَّعنا بعض الأسباب التي تساعد على نشر الخزعبلات والأباطيل في كثير من دول العالم .



وفي الأقطار التي تُعتبر فيها الأحجبة والرُّقى والتمائم أهم بكثير من تكنولوجيا الطب الحديث ، فإن نظام التعليم فيها يكون موافقا لمواصفات الخزعبلات ، معينا للخرافات على الانتشار ، وهذا النظام التعليمي هو السائد في أكثر دول الخرافات، وهو يقوم في الأساس على مبدأ (حشو) عقول الأبناء وجعل العلوم التطبيقية محفوظاتٍ وأناشيدَ ومقطوعات غايتها الرئيسة هي النجاح في اختبار إعادة ترديد المحفوظات والحشو ، وليس تطبيقها تطبيقا عمليا !
بقلم / توفيق أبو شومر

0 comments:

إرسال تعليق

 
تصميم وتنفيذ الادارة التنفيذية