بعد "جمعة الزحف ٳلى دمشق" بدأت بعض كتائب الثوار السوريين في تصعيد تحركاتها في دمشق، حيث تتجه اﻷمور ٳلى ما يسميه البعض "المعركة الحاسمة" فما الذي ينتظر الثوار في دمشق ؟ وهل من الصواب التوجه مباشرة ٳلى عاصمة البلاد والثورة لم تكمل بعد تحرير قلب الشمال، حلب ولا عاصمة الثورة السورية، حمص ؟
في الحالة السورية، يجب علينا النظر ٳلى ما يحصل على اﻷرض وفي المحيط القريب والواسع كرقعة شطرنج هائلة، كل ما يجري في موقع، يتأثر ويؤثر في الباقي
في أمريكا، أعاد الناخبون ٳلى البيت اﻷبيض رئيساً دينه وديدنه هو الاقتصاد ولا يبالي بالاعتبارات اﻹنسانية وفي حين يتمتع خطابه بأخلاقية لا يخجل منها "مارتن لوثر كينغ" تأتي أفعاله أقرب لسلوكيات "جورج بريسكوت بوش" اﻷب. السيد "اوباما" سيبقى يختلق الحجج واﻷعذار لكي لا يفعل شيئاً لدعم الثوار حتى يقترب نظام العصابة في دمشق من السقوط، حينها سيقفز الرئيس اﻷسمر للمطالبة بأبوة النصر، مثلما فعل في ليبيا !
محور الشر، من جهته، لا يتعب نفسه أصلاً بالبحث عن خطاب ٳنساني أو منمق، ويمد اﻷسد وشبيحته بالمال والعتاد وحتى بالرجال دون حدود. هذا الدعم ليس مرتبطا حصراً، كما قد يظن البعض، باعتبارات طائفية ودينية أو ايديولوجية بل هو مرتبط بتوازنات النفوذ المستقبلية في المتوسط مع تقهقر الامبراطورية اﻷمريكية وانكفائها ٳلى حدودها وبخاصة مع تحول مركز ثقل السياسة اﻷمريكية باتجاه المحيط الهادئ بدل اﻷطلسي
أوربا، في بعدها المتوسطي، تبدو وقد قرأت المتحولات في المنطقة بشكل صحيح وهي تقترب تدريجياً من الموقف التركي، بدليل أن جيراننا الكبار في المتوسط هم من بادر بالاعتراف بالائتلاف السوري المعارض كممثل شرعي ووحيد، في حين جبن العرب عن عبور هذه الخطوة حتى الآن. الشمال والوسط اﻷوربيان لم يبالوا أصلاً بمعاناة السوريين لكي يتغير موقفهم. مع ذلك، لم تتجاوز الدول الصديقة حد الخطوات الرمزية والتسليح الخجول بانتظار انجلاء المواقف على اﻷرض وعلى أمل بزوغ قيادة عسكرية ومدنية موحدة تشجع هؤلاء اﻷصدقاء على المغامرة ووضع كل البيض في سلة الثورة. يضاف ٳلى هذا أن الجميع يترقب انجلاء الموقف اﻹسرائيلي وتطوراته
الخطوة اﻹسرائيلية اﻷحدث هي العدوان اﻹسرائيلي على غزة حيث يهب "نتنياهو" لنجدة الحليف اﻷسدي بشكل غير مباشر بما يعيد خلط اﻷوراق في المنطقة و يفتح الباب مواربة أمام الدخول اﻹسرائيلي المباشر لنجدة اﻷسد حين اللزوم، خاصة بعدما استدعى العدو 75 ألفاً من جنود الاحتياط في حين لا يحتاج غزو غزة لهكذا تعزيزات
سيكون الدخول اﻹسرائيلي المباشر على خط الأزمة في سوريا، دعماً ولو غير مباشر للأسد، كارثياً على الثورة السورية، التي ستضطر ﻷن تقاتل كل أعدائها دفعة واحدة دون أن يكون لديها مواقع محمية أو أصدقاء تعتمد عليهم. ٳسرائيل لن تتخلى بسهولة عن رجلها في دمشق ولو اقتضى اﻷمر فضح "عقد نكاح الممانعة" القائم بين الطرفين منذ عام 1974.
هذا يعني أن زبانية اﻷسد المتحصنين في دمشق لن يتركوها بسهولة وسيدمرون المدينة بالكامل وهم مرتاحون ﻷنهم على مقربة مباشرة من حلفائهم في البقاع ومن حاميهم العنصري اﻹسرائيلي، في ذات الوقت الذي يحتفظون فيه بعمق استراتيجي في "الجيب العلوي" والذي سبق لحافظ اﻷسد ان لجأ ٳليه ٳبان حرب 1973 قبل توطيد علاقته مع اﻹسرائيليين
بعد اتفاق فصل القوات المشؤوم في 1974 بدأت سياسة اﻷسد في سوريا تسير على خطين متوازيين طيلة أربعة عقود، لعلعة كلامية بالممانعة والصمود من جهة، وترسيخ وضع "احتلالي" للنظام داخل سوريا. رأينا كيف توزعت قوات اﻷسد في مواقع حصينة للغاية داخل المدن مثل أي جيش احتلال غريب بحيث يدفع الدمشقيون، بعد الحماصنة والحلبيين، غالياً ثمن مواجهتهم مع النظام تماماً ككافة المدن السورية المحاطة "بمستوطنات" عشوائية منسجمة طائفياً بحيث يقع السكان الثائرون بين مطرقة العشوائيات وسندان مراكز القمع المنتشرة كاﻷفخاخ
سبق وأن تعثرت الثورة السورية في "تحدي حلب" والتي تحولت معركتها ٳلى حرب خنادق، ﻷن الثوار اجتاحوا المدينة دون أن تكون لديهم قيادة عسكرية موحدة قادرة على ضمان أمن وسلامة من يستسلم من جنود اﻷسد بما يشجع هؤلاء على الانقلاب على قادتهم العلويين والمتواطئين مع النظام. النتيجة كانت جعل ظهر هؤلاء المساكين ٳلى الحائط، فلاهم قادرون على الانشقاق ولا على الاستسلام وليس امامهم سوى الذود عن حياتهم وليس دفاعاً عن نظام اﻷسد
اﻷسد فهم جيدا هذه المعادلة ووظف تناقضات الثوار وخلافاتهم لصالحه. هكذا رأينا أغلبية جنود اﻷسد اﻷسرى في البوكمال ودير الزور وجلّهم من أبناء المحافظات الثائرة ومن طبقات يفترض أن مصالحها تتناقض مع نظام الحرامية في دمشق ! لنتذكر أن معركة "ستالينغراد" لم تنته ٳلا حين استسلم مئتا ألف جندي ألماني للجيش اﻷحمر الذي قبل استسلام الجميع وضمن حماية أرواحهم، باستثناء أعضاء "الوافن اس اس" من النازيين الذين سفكوا دماء الروس بغير حساب، وقد تركهم رفاقهم من اﻷلمان لمصيرهم اﻷسود وحدهم
هذا يعني أننا لن نرى انشقاقات واسعة، في غياب حظر جوي، سوى حين تتشكل قيادة موحدة للقوات العسكرية الثائرة تضمن أمن وحياة من يستسلم من جنود اﻷسد، بما يرمي الفرقة بين من تلوثت أيديهم بالدماء من جلاوزة اﻷسد وبين العسكريين منفذي اﻷوامر والذين شاء حظهم العاثر أن يؤودوا خدمتهم اﻹلزامية في موقع استهدفه الثوار
في حالة دمشق ستكون المعارك شديدة الدموية وسيدافع زبانية النظام من كل الطوائف عن حياتهم قبل أن يدافعوا عن اﻷسد، مما سيجعل طعم النصر في دمشق مراً كالعلقم. هل هذا يعني أن لا معركة مقبلة في دمشق ؟
لا، فمعركة دمشق سوف تقع ولكن لا بد من استعدادات أكثر بكثير من أجل دمشق حيث سيكون الثوار بعيدين عن خطوط ٳمدادهم في الشمال والشرق واﻷسد قريباً من أصدقائه في الجولان والبقاع. في دمشق سيكون من اﻷفضل حالياً للثوار الاستمرار بمناوشة اﻷسد وٳنهاكه عبر حرب ظلال وضربات متلاحقة في مواقع متعددة بما يبقي جنود اﻷسد منهكين وخائفين دون أن يمهد اﻷمر لجر ٳسرائيل ٳلى الدخول المباشر. المهم هو ألا يتمكن اﻷسد من محاصرة الثوار في مناطق وأحياء "محررة" ستكون مقبرة للثورة وللثوار. هذا "الكمين الدمشقي " ينصبه اﻷسد وزبانيته منذ أربعين عاماً وهو جاهز الآن للتفعيل، فماذا بمقدر الثوار أن يفعلوا ؟
بٳمكان الثوار الاستفادة من نقاط ضعف نظام العصابة اﻷسدي وبناء استراتيجية سياسية وعسكرية شاملة تأخذ بعين الاعتبار أن نظام الشبيحة في دمشق هو في النهاية "مافيا" عائلية تقود ميليشيا طائفية احتلت سوريا بالتعاون مع أفراد من كل الطوائف من أجل حيازة مكاسب لها وتحقيق سياسات أطراف خارجية هي محور الشر (ٳسرائيل، ٳيران، روسيا والصين). أمريكا، التي كانت صديقا مخلصاً للنظام ابتعدت نسبياً عن اﻷسد بعدما أثخنها هذا اﻷخير بالجراح في العراق خدمة للسيد اﻹيراني. اﻷطراف الخارجية، وخاصة ٳسرائيل، لا تريد أن "تزفر" أيديها ٳلا حين الضرورة القصوى، لذلك يحسن بالثوار انتهاج استراتيجية ضرب النظام تدريجياً وتفكيكه بذكاء من الداخل. الهدف هو خلق تناقضات داخلية ضمن النظام بما يؤدي لانهياره، دون ٳعطاء فرص مجانية لحلفاء النظام كي يتدخلوا مباشرة لصالحه
يقول "كلاوزفيتز" : "لكي ننتصر يجب علينا تجميع قواتنا وضرب العدو في القلب ضربة قاصمة لا تقوم له قائمة بعدها". فأين يوجد قلب نظام العصابة اﻷسدية ؟ نعرف أن دمشق هي رأس النظام و"حلب" هي عصبه الاقتصادي، لكن القلب هو في الجيب العلوي
ككل نظام عصابة، ينبني الولاء لدى زبانية اﻷسد على المصالح الشخصية أولا وعلى علاقات القربى والدم ثانياً. ولتفكيك المافيا اﻷسدية (بالمناسبة كلمة مافيا من أصل عربي وتعني "المخفية" لكونها بدأت كحركة سرية، نشأت كمقاومة أثناء الوجود العربي في صقلية) ربما علينا أن نستذكر دروس التاريخ حين قام "الدوتشي موسوليني" باجتثاث المافيا الصقلية من جذورها بعدما تباهي عمدة "باليرمو" أمامه، عام 1925، بسطوته وبمدى نفوذه
"موسوليني" الذي انزعج من كون المافيا الصقلية قد سيطرت على كامل الجزيرة وبدأت بالامتداد ٳلى البر اﻹيطالي، جرد حملة عسكرية اجتاحت "صقلية" وشن حرباً شعواء على المافيا، لكنه لم يقم باجتياح المدن ولا بقصفها، على العكس، توجه نحو اﻷرياف البعيدة. لم يقم الجيش اﻹيطالي بتسوية مدن صقلية بالتراب للخلاص من عناصر المافيا المنتشرين في هذه المدن كالجرذان، بل توجه مباشرة ٳلى القرى النائية والريف الصقلي لاحتلالها والسيطرة عليها على مبدأ "تجفيف" موارد المافيا من الرجال وحرمانهم من قواعدهم الخلفية ومن الملاذات الآمنة. في غضون أيام تمكنت قوات "الدوتشي" من القبض على 11000 رجل وقامت لهم بمحاكمات سريعة بل وبٳعدامات لمن ثبت ولوغه في جرائم دموية. لم تقم للمافيا بعدها قائمة لا في صقلية ولا في ٳيطاليا حتى نهاية الحرب العالمية الثانية
في تصورنا، فهدف الثوار الاستراتيجي الأفضل قد يكون في "القرداحة" وليس في دمشق وربما تكون المعارك التي ستدور حول هذه المدينة هي الحاسمة. في تلك المناطق، وبسبب تداخل خطوط الاشتباك، سوف يتم نسبياً تحييد أسلحة الميليشيا اﻷسدية اﻷكثر فتكاً وهي أسلحة الطيران والصواريخ والمدفعية بعيدة المدى. سيبقى الثوار قريبين من خطوط ٳمدادهم وقواعدهم في الشمال وسيكون زبانية اﻷسد بعيدين عن أصدقائهم في الغرب والجنوب. سوف يشعر زبانية اﻷسد في دمشق، والذين أرسلوا نساءهم وأطفالهم ليكونوا بأمان في "الضيعة" بالذعر وقد تنشأ تناقضات داخل نظام العصابة بين من يشعرون أن قراهم مهددة وأن أهلهم بحاجة لهم وبين من ربطوا مصيرهم نهائياً بآل اﻷسد وانفكوا عن قراهم وبلداتهم
ٳضافة ٳلى ذلك، ستنشأ تناقضات جديدة وانقسامات عابرة للطوائف في معسكر اﻷسد بين من هم ممسكون بالسلاح من "الطائفة الكريمة" ٳياها وبين حلفاء اﻷسد من كل الطوائف والذين يتمتعون بالحماية من قبل أجهزة اﻷسد. السيناريو اﻷمثل سيكون في انقلاب الطائفة العلوية المرتجى على نظام الشبيحة وانضمام هذه الطائفة ٳلى الثورة واحتلالها موقعها الطبيعي ضمن النسيج السوري
ٳسرائيل لن تجد مناسبة ولا تبريراً للدخول على خط اﻷزمة، مالم تحصل مجازر لا سمح الله في مناطق الساحل وهو ما نخشاه ونأمل ألا يحدث بأي حال من اﻷحوال. في حالة حصول تصفيات في الساحل السوري، فسوف يكون مآل الثورة ٳلى الفشل والدموية و سوف يصحو مجلس اﻷمن من غفوته الطويلة ويتخذ على الفور قراراً بموجب الفصل السابع، ستسارع ٳسرائيل لتطبيقه..
من نتائج سقوط الجيب العلوي في يد الثوار أو حتى حصاره سيكون ربما الانهيار السريع لنظام العصابة في دمشق ولسوف "يغني كل على ليلاه". حينها سيتجه زبانية اﻷسد، زرافات ووحداناً، ٳما ٳلى قراهم "لحمايتها" والاختباء فيها أو طالبين اللجوء في الجولان المحتل تحت حماية صديقهم العبري، تماماً كجيش لبنان الجنوبي
أليس هذا ما كان يتوقعه الجنرال "بني غانتز" رئيس اﻷركان اﻹسرائيلي قبل عدة أشهر ؟ الرجل عسكري قدير ولو كان عدواً. ربما كان الجنرل "غانتز" سيطبق نفس السيناريو، أي الاتجاه أولاً صوب الجيب العلوي "لنقل المعركة ٳلى أرض العدو" لو كان هو من يقود الثوار السوريين
0 comments:
إرسال تعليق