السبت، 29 ديسمبر 2012

الديمقراطية والثورة



طرحت الثورات التي اجتاحت دولاً عربية عدة، مفاهيم سياسية وإيديولوجية، لم تكن تحظى بالتداول من قبل نظراً للعلاقة المتشابكة والمعقدة بين هذه المفاهيم، مع محاولات طمسها من قبل السياسات العربية التي لم تكن تصيغ مفاهيمها بقدر ما تأخذها جاهزة، ومن بينها العلاقة بين المفهوم الاشتراكية التي سادت في أوساط سياسية عربية عديدة خلال النصف الأول من القرن العشرين، ومفهوم الديمقراطية الذي حل تالياً بعد انهيار الاتحاد السوفييتي وتجربته الاشتراكية، علاقة بقيت غامضة تأتي إحداها على حساب الأخرى. ولأن المفهوم الاشتراكي الذي ساد في تلك الفترة تنصل من موضوع الديمقراطية معتمداً أسلوب ديكتاتورية البروليتاريا التي بقيت فضفاضة في المفهوم والممارسة إلا أنها سمحت بأقصى أنواع الاستبداد والديكتاتورية، وكنا مدافعين عنها، رغم أنها طالت باستبدادها البروليتاريا نفسها باعتبارها تشكل الكتلة الشعبية الأكثر عددا ً، خاصة في الدول الاشتراكية التي حصرت الواقع في القضايا المعيشية على حساب القضايا السياسية ومنها قضية الحريات والديمقراطية، وهذا ما جعل شعوب الدول الاشتراكية بمجملها تضحي بالمكاسب المعيشية والمالية التي حققها هذا النظام في سبيل تحقيق الحرية انطلاقاً من مقولة، " إذا كان النظام الاشتراكي قد عجز عن توفير الديمقراطية الحقيقية، فإن النظام الديمقراطي لا بد أن يكون قادراً على توفير نموذجاً اشتراكياً أكثر عدالة لصالح مجموع الشعب لا للسلطة الحاكمة أو للحزب أو الأحزاب التي تفرزها.
هذا على صعيد المركز الاشتراكي، أما في المجتمعات العربية فإن الأنظمة التي أوغلت بالاستبداد والقمع، تجاهلت المفاهيم الاشتراكية رغم زعمها الانتماء لها، بحجة أنها اشتقاق من الماركسية (( الإلحادية )) وصنعت نماذج منها تخدم ليس توجهاتها فقط بل انتماءها الريفي على حساب المجتمع المدني. كما تجاهلت الديمقراطية بحجة خصوصية المجتمعات العربية التي لا تتقبل نماذج ديمقراطية مستوردة علماً أن التاريخ البعيد يبين أن الديمقراطية كمفهوم ثقافي يوناني، كان العرب أول من تفاعل معه والتقطه الغرب وطبقه. أما التاريخ القريب فهو يبين ممارسة أنماط ديمقراطية سادت في بعض البلدان العربية، كمصر وسورية والعراق ولبنان وهي الدول التي حققت استقلالاً ناجزاً، إذ توفرت فيها الأحزاب المتنافسة ديمقراطياً والانتخابات البرلمانية، وكان النظام البرلماني الديمقراطي فيها يشكل صورة عن البرلمانات الغربية السائدة الآن، في الوقت الذي كانت فيه بعض الدول الأوربية كأسبانيا واليونان، ودول يوغسلافيا محكومة بديكتاتوريات أكثر قوة من الديكتاتوريات العربية واستمرت أكثر من نصف قرن. لكن نكبة فلسطين والاستيلاء على السلطة بالانقلابات العسكرية وتمسك العسكر بها أجهض الحالات الديمقراطية بحجة أن هذه الديمقراطية لا تلائم المجتمعات العربية وكأن هذه المجتمعات هبطت من كوكب آخر أو أنها لم تمارس هذه التجربة أو تنجح فيها. كما نسيت أن النموذج في تركيا التي تعتبر انشقاقاً عن المجتمعات العربية كجزء من الدولة العثمانية استطاعت أن تبني نموذجا من الديمقراطية السياسية لا تقل مشروعيته عن النماذج الغربية رغم الكثير من المآخذ فيها، كذلك التجربة الباكستانية، الدولة المسلمة التي انشقت عن الهند جغرافياً لكنها استحضرت معها التجربة الديمقراطية وكانت تمارسها لفترة طويلة.
لقد ترافق استبداد الأنظمة العربية بحملة تخوين للمطالبين بحقوق الإنسان، وبناء المجتمع المدني أو المطالبين بالديمقراطية واتهمتها بكونها أدوات في يد القوى الغربية انطلاقاً من نظرية المؤامرة التي تصور أن كل من يخالفها هو ضمن تلك المؤامرة المرسومة من خارج الحدود، وإن كان لممارسات السياسات الأوربية بعض الدور في ترسيخ هذه الحجة من خلال الدعم المادي الذي كانت تعرضه على منظمات وجمعيات مطالبة بتفعيل المجتمع المدني أو بالحرية، وهي مسؤولية تقع على عاتق الدولة والسلطة التي يفترض فيها الترخيص لهذه المنظمات وتوفير الدعم المادي لها لتقطع الطريق على المساعدات الخارجية،تماماً كما اتهمت المحتجين في الميادين والشوارع ، بالمتآمرين والمندسين أو السلفيين والإرهابيين لتبرير القمع رغم اعترافها بشرعية المطالب ، وهي لم تتوانى أيضاً عن التحذير دوماً من الديمقراطية كإنتاج غربي هدفه ضرب القيم والعلاقات المجتمعية وتفكيكها، وزعزعة الأمن والاستقرار الاجتماعي والاقتصادي للمجتمعات العربية وهي بذلك تتجاهل أن الديمقراطية هي الحصن الذي يعزز الاستقرار والوحدة في المجتمع. كما أنها تجاهلت أن ثورة المعلومات خلقت واقعاً جديداً لا يمكن تجاوزه، وإن الأساس الإيديولوجي إن صح التعبير لهذه الثورة هو الانفتاح نحو التجارب العالمية، إذ لا يوجد تواصل في المعلومات دون توفر حرية الوصول إليها، وبالتالي فقد فتحت ثورة المعلومات الباب واسعاً أمام سيادة مفهوم الديمقراطية الذي يأتي متلازماً مع حاجات الإنسان الأساسية وخاصة المعيشية، بل أعطاها بعداً أكبر.عندما استطاعت أن تكشف عمليات النهب والفساد ليس ضمن قضايا وهمية بل ضمن تجارب حقيقية
إن نزع السياسة من المجتمع الذي مارسته الأنظمة لحماية وجودها، اضر بالحالة السياسية إذ أن الغالبية العظمى من الشباب لم يمارسوا انفتاحاً سياسياً خلال فترة النمو الفكري والنضج السياسي، وبقيت السياسة بالنسبة لهم إحدى المحرمات التي لا يجب الاقتراب منها ليس من قبل الأنظمة فقط بل من قبل الأهل الذين خبروا ديكتاتورية هذه الأنظمة وقمعها ومخاطر العمل السياسي في ظلها مما جعلهم يحرصون على إبعاد الشباب عن نتائج هذا (( المنزلق )) خاصة في الأوساط التي مارست السياسة ، إذ نجد في مذكراتها ما يشير إلى أنهم لا يريدون لأبنائهم أن يمروا بنفس التجربة التي خاضوها سواء من سجن منهم أو اختفى أوهرب للخارج أو عانى من الاضطهاد والحرمان من العمل والتشغيل في المؤسسات العامة واحياناً الخاصة والتعبير.
هذا الواقع جعل مشاركة الشباب في الحياة السياسية مع غياب معارضة فاعلة محدوداً، وظهر ذلك جلياً في الانتخابات والاستفتاء التي تجريها الأنظمة حول أية قضية ترشيحاً وتصويتاً حيث لا تصل نسبة المشاركة فيها إلى 15 % وذلك لسببين. الأول أن نتائج هذه الانتخابات محسومة سلفاً لصالح السلطة، والثاني أن أصواتهم سترمى في صناديق التصويت من خلال عمليات التزوير وبتوجيه من السلطة ولصالح مرشحيها ، وهو ما يرفع النسبة إلى أكثر من 90 % مشاركة وتأييداً. وفي غياب نظام انتخابي تنافسي. لكن تجربة الاستفتاء على التعديلات الدستورية التي جرت في مصر بعد نجاح الثورة تميزت بإقبال وصلت نسبته الفعلية إلى 72 % من الذين يحق لهم الاقتراع ولأول مرة منذ سقوط الملكية، وبلغت فيها المنافسة حدها الأقصى بين اتجاهين بغض النظر عن هذه التعديلات.
لم يكن غريباً أن تسمى الثورات العربية بثورات الإنترنيت، ولم يكن خروج الملايين إلى الشوارع للمطالبة بسقوط الأنظمة والاستبداد وتحقيق الديمقراطية، لولا التواصل التقني الذي مهد لنجاحها، وإذا كان هناك استعصاء في المطالب الديمقراطية وتعميمها فهي بسبب النقص الحاد في توفر المساحة الواسعة من استخدام المعلومات أو التحكم بها، بسبب الأمية في التعليم من جهة وأمية التكنولوجية من جهة أخرى. فأعداد كبيرة في الوطن العربي محرومة منها، لكنه في نفس الوقت لدينا إبداعاً وقدرة على اختراق الحجر الذي تفرضه السلطات على التفاعل مع هذه التكنولوجية
لقد أجريت في مصر قبل عدة أشهر مسابقة بالبرمجة للشباب شاركت فيه مجموعات عربية وأجنبية، تفوق فيه الشباب من سورية على جميع هذه المجموعات، وهذا يدل على أن الشباب العربي لا يستخدم كله الكومبيوتر إنما لديه الاستعداد للاستفادة منه والإصغاء للذين يستخدمونه، لكن ذلك لا يعني أن الثورات التي حصلت كانت بسبب التدوين بعيداً عن المشاعر الوطنية والسياسية التي تحكم أصحابها وكأننا نخضع لمنطق الآلة، وإلا لكانت دول الخليج العربي التي نجحت في تعميم هذه التكنولوجية السبق فيها. لكن دمج هذه التكنولوجية في حركة الواقع الشعبي والاستفادة منها في التواصل الذي كان له الدور في نجاحها.
إن انتفاضة الشعوب العربية للمطالبة بالديمقراطية سيكون له تأثيرات في الواقع السياسي ليس في الوطن العربي فقط بل في أنحاء أخرى من العالم كما كان للثورات الأوربية التي لم تكن تتميز عنها الأثر في إسقاط الأنظمة الثيوقراطية والاستبدادية، ونشهد الآن دولاً تستفيد من هذه التجربة في ألبانيا ودول يوغسلافيا وبعض الدول الآسيوية والأفريقية. لكن التأثير الأهم سيكون على الكيان الإسرائيلي، حيث بقيت إسرائيل على مدى العقود الستة الماضية تتبجح بأنها (( واحة للديمقراطية في هذه المنطقة والحلقة العلمية فيها )) في ظل استبداد عربي معمم وتخلف تكنولوجي فرض علينا، وهذا ما دفع كثير من الساسة فيها للقول " إن العرب لا يقرؤون وعندما يقرؤون علينا أن نخشاهم “. لقد شكلت مطالبة الشعوب العربية للديمقراطية البعبع الحقيقي لإسرائيل إذ تبين أن الديمقراطية التي تبنتها كانت لحماية وضعها في وسط عربي لا ديمقراطي، لكنها لن تكون بنفس القوة في وسط ديمقراطي، وأول البوادر هو ما حصل في ذكرى النكبة يوم 15 مايو 2011 عندما هبت جماهير عربية واسعة محاولة اختراق الحواجز الإسرائيلية رغم حجم الضحايا، كما أن بوادرها تجسدت في الرسالة التي وجهها عدد من المثقفين والسياسيين في إسرائيل لرئيس الوزراء وبينهم عدد من الذين شاركوا في الحروب العدوانية يطالبونه فيها " بدراسة المتغيرات التي تحصل في الوطن العربي بعقلية غير العقلية العدوانية التي تميزت بها إسرائيل طوال تاريخها "، وهم يدركون أن هذه المتغيرات المتصاعدة لن تقف عند حدود المطالبة بالتسوية ( والسلام العادل والشامل ) الذي استطاعت أن تفرض مفاهيمه على الأنظمة، بل بإعادة الحقوق العربية التي سلبت منذ عام 1948
لقد أصبح العالم قرية صغيرة وأصبح الشباب العربي قادر من خلال التواصل مع العالم على معرفة الواقع وتاريخه وجغرافيته على نحو أفضل بكثير من كتب التاريخ والجغرافية التي صاغتها الأنظمة بما يخدم مصالحها، وهذه نقطة لصالح المشروع الوحدوي الذي أصبح تحقيقه الآن من مهمة الشعوب وليس من مهمة الأنظمة التي رسمت له صورة مشوهة جداً.

دمشق منير درويش

0 comments:

إرسال تعليق

 
تصميم وتنفيذ الادارة التنفيذية