
محمد حسنين هيكل
الحديث التاسع
ثم يصلون إلى سنة 1967، وهزيمتها المؤلمة، يقولون:
- "والهزيمة... مسئوليته عن الهزيمة سنة 1967؟".
وأقول على الفور:
- إن جمال عبد الناصر مسؤول عمّا حدث سنة 1967، وقد قبل هو بتحمل كل المسئولية فيما جرى، وصارح بذلك شعبه وأمته، وكانت رغبتهما بعد ذلك معاً هى الطلب بأن يظل فى موقعه ويقود الحرب... لقد خسرنا معركة، ولكن الحرب مستمرة!
ولعلى أقول بعد ذلك أن مسئولية عبد الناصر، فى الدرجة الأولى، تنبع من سببين:
* السبب الأول: الخطأ فى حسابات عملية إغلاق خليج العقبة.
* السبب الثانى: الخطأ فى ترك المشير عبد الحكيم عامر يقود المعركة فعلاً، بينما هو - علمياً - لا يصلح لقيادتها، لأنه تحول فى الحقيقة عند رتبة الرائد، من ضابط إلى سياسى.
ومع ذلك، فلكى توضع مسؤولية جمال عبد الناصر فى إطارها العملى والتاريخى فإنه يتحتم علينا إلقاء نظرة واسعة على الصورة العامة للموقف السياسى والعسكرى، كما بدت أمامه وقتها.
... أولاً - أبدأ برؤيته العامة لمجرى الصراع العربى - الإسرائيلى.
كان جمال عبد الناصر حريصاً كل الحرص فيما يتعلق بالصدام المسلح مع إسرائيل لعدة أسباب:
1- كان يرى أن الصدام المسلح مع إسرائيل لابد فيه من حساب احتمالات التدخل الأمريكى، وهو احتمال قائم يستهدف فرض الهزيمة على العرب - إذا استطاع - أو سلبهم ثمار النصر - إذا استطاعوا - وإذن فإن نجاح الصدام المسلح فى رأيه كان مرهوناً بظرف دولى وعربى ملائم تكون فيه القوة الأمريكية مصابة بالشلل، أو يمكن إصابتها به.
2- كان رأيه أن القوات المسلحة المصرية تحتاج على الأقل إلى خمسة عشر عاماً تستوعب فيها سلاحها الذى حصلت عليه من الاتحاد السوفيتى، ولم يكن يقيس هذه المدة بتاريخ عقد أول صفقة سلاح سنة 1955، وإنما كان يقيس ابتداءً من سنة 1957 - ومن هنا، فقد كانت الفترة المحتملة للصدام المسلح فى تقديره هى الفترة الواقعة ما بين سنة 1972 وسنة 1975.
3- حتى يجىء هذا الوقت وتسنح فرصته، فقد كان جمال عبد الناصر يعتقد اعتقاداً راسخاً فى سياسة يسميها هو "سياسة السنطة وشعرة ذيل الحصان"، وهى تسميه مستمدة من حياة صعيد مصر وممارساته اليومية، وكان جمال عبد الناصر يشرح سياسته، فيقول:
"إن السنطة نوع من البثور يظهر على الجسم ويتكلس، وأهل الصعيد فى مصر يعالجونه بأن يجىء الواحد منهم بشعرة من ذيل حصان ويلفها حول النمو الدخيل على جسده، ثم يحكم شدها بحيث يحبس مرور الدم إليها، وتبدأ الإصابة بعد أيام تتجمد، ثم تبدأ فى الذبول، ثم تقع من تلقاء نفسها".
وكان رأى جمال عبد الناصر أن إسرائيل نمو دخيل فى وسط الجسد العربى، وأن مقاطعتها وإحكام الحصار من حولها وتشديد الضغط عليها كل يوم، سوف يؤدى إلى حبس الدم عن خلاياها، ومن ثم إلى ضمورها وسقوطها.
المهم أن نرفض التعامل معها باستمرار، المهم أن لا يخف حصارنا عنها طول الوقت، المهم أن تحس بضغطنا من حولها ليل نهار.. وحتى إذا اضطررنا بعد ذلك إلى استعمال القوة المسلحة، فإن استعمال القوة يجىء فى أكثر الظروف ملاءمةً.
وكانت له نظريته فى استعمال القوة المسلحة مع إسرائيل، كان يرى أن الظروف العالمية لا تعطى العرب فرصة تحقيق نصر حاسم نهائى فى معركة واحدة..
وهكذا ظل يتصور سلسلة من المعارك تحقق كل منها نصراً جزئياً - عسكرياً وسياسياً - ثم يكون من أثر تراكم هذه الانتصارات كلها أن يشعر المشروع الصهيونى فى فلسطين بأن لا أمل له فى البقاء.
... ثانياً - تصوره العام لمجرى الصراع سنة 1967.
مع بداية سنة 1967، فإن جمال عبد الناصر راح يتابع صورة التطورات فى الشرق الأوسط باهتمام مشوب بحذر شديد - لعدة أسباب:
1- كان يشعر أن علاقاته بالولايات المتحدة الأمريكية قد وصلت إلى نقطة عنف شديد عبر عنها قرار الرئيس الأمريكى "ليندون جونسون" بوقف بيع القمح الأمريكى إلى مصر.
2- لم يكن يستبعد، والأمر كذلك، أن تلجأ الولايات المتحدة إلى "الرادع الإسرائيلى"، كما فعلت بريطانيا وفرنسا فى حرب السويس سنة 1956.
3- كان يرى أن الظروف غير ملائمةً له عسكرياً بسبب وجود فرقتين من الجيش المصرى فى اليمن وقتها، وكان يقدر أنه إذا أرادت إسرائيل استغلال فرصة، فهذه هى الفرصة المتاحة لها، وكان قد حاول من قبل أكثر من مرة أن ينهى معركة اليمن، ولكن محاولاته جميعاً لم تصل إلى نتيجة، وتلك قصة أخرى على أى حال!
ومن المفارقات أن الملك حسين ملك الأردن بعث إليه فى ذلك الوقت برسالة مع الفريق عبد المنعم رياض، يحذره فيها من مؤامرة تستهدف جره إلى معركة فى ظروف غير ملائمة - وكان ذلك متفقاً مع إحساسه العام.
... ثالثاً - موقفه إزاء التهديد الموجه إلى سوريا.
عندما بدأ ليفى أشكول - رئيس وزراء إسرائيل فى ذلك الوقت - وتبعه إسحاق رابين - رئيس هيئة أركان حرب الجيش الإسرائيلى - يوجهان التهديدات الصريحة إلى سوريا، ويتحدثان علناً عن "الزحف على دمشق"، بدأ جمال عبد الناصر يتقصى حجم الخطر الموجه إلى سوريا..
وتصادف فى ذلك الوقت أن كان أنور السادات فى موسكو عائداً من رحلة فى "كوريا الشمالية"، فإذا بالرئيس "نيكولاى بادجورنى" يطلب إليه نقل رسالة إلى عبد الناصر عن الخطر الموجه إلى سوريا، وعن استعدادات إسرائيل لتوجيه ضربة إليها.
وتواترت معلومات عن حشد ما بين تسعة ألوية إلى أحد عشر لواءً أمام سوريا.
ثم تلقى جمال عبد الناصر من دمشق تقريراً بعث به السفير السورى هناك وقتها، وهو الأستاذ صلاح الطرزى، يقول: "أن مصادر موثوق بها أكدت له أن الهجوم على سوريا قد تحدد بالفترة ما بين 16 و22 مايو".
وهكذا واجهته ضرورة اتخاذ قرار، فلقد تأكدت أمامه احتمالات ضربة عسكرية موجهة إلى سوريا، ولم يكن فى مقدور مصر أن تقف مكتوفة اليدين.
(ولست أعرف ماذا كانوا يقولون عنه أو عن مصر لو أنه وقف ساكتاً، ولم يتحرك، وترك سوريا للغزو وحدها؟!).
... رابعاً - قراره بالحركة لمساعدة سوريا وتخفيف الضغط عنها.
كان عليه أن يتحرك قبل 16 مايو.
وفى يوم 13 مايو أصدر قراراً بحشد قوات مصرية فى سيناء تأهباً واستعداداً..
ونستطيع أن نتصور اتجاهات تفكيره فى تلك الفترة من خلال مقابلة بينه وبين "الدكتور إبراهيم ماخوس" وزير خارجية سوريا الذى طار للاجتماع به فى القاهرة يوم 16 مايو.
وبدأ الدكتور ماخوس يروى أمامه معلومات دمشق عن الحشود الإسرائيلية ونواياها، وعن تأكيدات السوفيت لهذه الحشود والتحذير منها.
ثم قال الدكتور ماخوس: "أن السوفيت أبلغوا السفير السورى فى موسكو بأنهم سوف يبذلون كل جهدهم لمساعدة سوريا فى أى شىء تتعرض له، حتى ولو اضطروا للتدخل العسكرى".
وبدأ جمال عبد الناصر يتكلم، وكان قوله بالحرف الواحد، نقلاً عن الوقائع الرسمية لتلك المقابلة:
"ليس واضحاً أمامى ما يستطيع السوفيت عمله لمساعدتكم. تقديراتنا أنهم سوف يعطون تأييداً معنوياً، ولكنى لا أرى فرصة لتدخلهم عملياً".
سوف يساعدون فى الأمم المتحدة، وربما وجهوا إنذاراً لأمريكا وإسرائيل، ولكن غير ذلك، ماذا يستطيعون؟.. كيف يتدخلون عملياً عبر تركيا أو إيران؟".
واستطرد جمال عبد الناصر:
- "إننا بحشد قواتنا فى سيناء أردنا أن نقوم بمظاهرة كبيرة، ولكى يكون من هذه المظاهرة رسالة لإسرائيل تجعلها تفكر مرة ثانية.
ولكنى أرجوكم أنتم فى سوريا أن تضبطوا أعصابكم، ولا تدفعوا الأمور إلى نقطة الخطر.
إننى لا أريد أن أقفل باب التراجع وراء إسرائيل. أريدهم أن يتراجعوا بهدوء، ولا أريد أن أجعل هذه العملية صعبة عليهم، فمن الخطر فى أوقات الأزمات أن تغلق وراء عدوك باب التراجع إذا لم تكن تريد الصدام الفورى معه".
واستطرد جمال عبد الناصر:
- "خطتى الآن أن أترك قوات الطوارئ فى شرم الشيخ وغزة.
لقد طلبنا سحبهم من الخط الواقع بين "طابا" و"رفح" لفتح خط المواجهة أمام تدخلنا، لو اضطررنا إلى ذلك.
لكن خروجهم من "شرم الشيخ" سوف يؤدى إلى تعقيدات كثيرة، ثم أن خروجهم من قطاع غزة ليس فى صالحنا، لأننا لا نستطيع الدفاع عن القطاع فى حالة نشوب عمليات.. من ناحية لأنه ليس لنا فيه قوات ثقيلة بحكم اتفاقيات الهدنة، ومن ناحية أخرى لأن القطاع لا يسمح بأى مناورة فى الحركة.
وأريدكم فى دمشق أن تعرفوا أن الموقف دقيق، وعلينا أن نعالجه بأعصاب باردة، وأنا أطلب منكم أن تساعدونى بالامتناع عن أى عمل استفزازى فى هذه الظروف الساخنة".
وخرج الدكتور إبراهيم ماخوس، ويلفت النظر أن جمال عبد الناصر استدعى بعده مباشرةً سفير الاتحاد السوفيتى فى القاهرة، وهو وقتها السفير "بويجداييف"، وقال له:
- "إنى أريدهم أن يعرفوا فى موسكو أننا أخذنا بعض التدابير العسكرية بناءً على ما أكدوه لنا من معلومات عن الحشود الإسرائيلية.. إن ما قالوه لأنور السادات كان العامل الأكثر تأكيداً لما كان لدينا من معلومات. وبالتالى، فإنى أريدهم فى هذه الفترة أن يتنبهوا إلى ما يجرى فى الشرق الأوسط، خصوصاً وهم يتحملون - أدبياً - جزءً كبيراً من مسئولية تطورات الحوادث".
... خامساً - قرار إغلاق خليج العقبة.
كان الطلب المصرى الأساسى هو إخلاء قوات الأمم المتحدة من خط المواجهة بين "طابا" و"رفح"..
ولكن "يوثانت" السكرتير العام للأمم المتحدة، بناءً على نصيحة من مساعده الأمريكى الدكتور "رالف بانش"، قال إن "عمل قوات الطوارئ هو مهمة سلام لا تتجزأ".
وبالتالى "فليس هناك مجال لسحب جزء من القوة وإبقاء جزء منها، لأن وجود القوة فى رأيه "مهمة " تؤديها بالكامل أو تتخلى عنها بالكامل.
وإذن فهى إما أن تبقى فى مواقعها كما هى، وإما أن تنسحب من جميع مواقعها، وهذا حق مصر على أى حال بمقتضى اتفاقها مع سلفه داج همرشولد سنة 1957".
ولم يكن أمام جمال عبد الناصر من حل إلا أن يطلب سحب القوة من كل مواقعها، وإلا فإن هذه القوة سوف تكون مانعاً بينه وبين أى عمل لنجدة سوريا.
وكان طلب خروج القوة كلها.
ووصلت وحدات الجيش المصرى إلى شرم الشيخ.
وطرحت حكاية خليج العقبة نفسها على الموقف.
يقفل الخليج أو لا يقفل فى وجه الملاحة الإسرائيلية؟
إن إغلاق الخليج حق مصرى بمقتضى قوانين السيادة والحرب.
ثم إن إغلاق الخليج أمام الملاحة الإسرائيلية كان مطلباً عربياً يلح به الكل على مصر، ولكن القرار لابد أن يصدر بعد دراسة مسئولة.
ودعيت اللجنة التنفيذية العليا لاجتماع طارئ، وطرح أمامها موضوع إغلاق خليج العقبة، وقررت اللجنة بإجماع الآراء إغلاق الخليج أمام الملاحة الإسرائيلية تمسكاً بحق السيادة، ونزولاً على مقتضيات حالة الحرب، واستجابةً لمطلب عربى ملح، ثم إقراراً بأمر واقع نشأ عن سحب قوة الطوارئ الدولية من كل سيناء.
اللجنة كلها - بإجماع الآراء - قررت، ولم يكن القرار انفرادياً من جمال عبد الناصر.
(الغريب أننى كتبت فى ذلك الوقت محذراً من مخاطر إغلاق خليج العقبة، قائلاً أن هذا القرار يعنى الحرب. ويومها اُتهمت علناً بالانهزامية، وبين الذين اتهمونى وقتها بعض الذين يتهمون جمال عبد الناصر اليوم بالتهور فى ذلك القرار!).
... سادساً - تقدير جمال عبد الناصر لاحتمالات الحرب.
فى ذلك الوقت كانت كل المعلومات تشير إلى أن اتجاه الحشود الإسرائيلية قد تغير، فلقد راحت القوات التى كانت فى شمال إسرائيل إلى جانب قوات أخرى - تندفع بأقصى سرعة إلى الجنوب.
واستدعى جمال عبد الناصر سفير الاتحاد السوفيتى مرة أخرى إلى مقابلته ليقول له:
- "أن الحشود كلها الآن على الجبهة المصرية.
لم يعد الخطر الإسرائيلى موجهاً إلى سوريا، وإنما هو الآن موجه إلى مصر".
وفى نفس الوقت كان تقدير جمال عبد الناصر كما يلى:
1- إنه سوف يبذل جهداً سياسياً مكثفاً لكى يحول دون اندلاع عمليات عسكرية.
2- إن نسبة احتمال نشوب عمليات عسكرية سوف تقل مع الوقت ومع نقل التركيز من المجال العسكرى إلى المجال السياسى.
3- إذا حدث ونشبت عمليات عسكرية فإن القوات المسلحة المصرية سوف تكون قادرة على خوض معركة دفاعية طويلة، إما على الخط الأول قرب الحدود الدولية، وإما على الخط الثانى فى وسط سيناء إذا اقتضى الأمر..
وإذا طالت المعركة الدفاعية فإن إسرائيل لا تستطيع تحمل استمرارها بوضع التعبئة العامة الكاملة.
4- إن نشوب عمليات عسكرية فى الشرق الأوسط سوف يخلق أزمة مواجهة عالمية، وذلك سوف يضغط بشدة من أجل وقف إطلاق النار وعودة القوات إلى مواقعها الأصلية.
وهكذا بدت المهمة الأولى أمام جمال عبد الناصر أن يتحرك سياسياً بأوسع ما يمكن.
... سابعاً - الحركة السياسية لجمال عبد الناصر وقتها.
فى تلك الظروف بدأ جمال عبد الناصر حركة سياسية، لعلها من أصعب ما قام به فى حياته، وكان يتحرك طول الوقت، وبأقصى ما يمكن من الفهم والحذر، وكان يشعر أنه فى سباق مع الزمن ومع الخطر.
وجاءته رسالة من الرئيس الأمريكى "ليندون جونسون" يناقش فيها تطورات الموقف معه، ثم يطلب إليه أن يبحث معه عن صيغة لمعالجة الموقف، ثم يقول فى نهاية الرسالة:
"أن الولايات المتحدة - وقوى أخرى - طلبت إلى السكرتير العام للأمم المتحدة يوثانت أن يطير إلى منطقة الأزمة، وأن يرى ما يمكن عمله على الطبيعة، وإنى أناشدكم أن تتعاونوا معه إلى أقصى حد ممكن".
ورد جمال عبد الناصر بأنه "سيبذل كل جهده ليفتح سبلاً أمام يوثانت، ولا يغلق أمامه طريقاً يمكن أن يؤدى إلى تخفيف حدة التوتر".
وتمكن جمال عبد الناصر من تجنيد كل جهد الجنرال ديجول الرئيس الفرنسى.
بعث إليه ديجول يرجوه أن لا يطلق الرصاصة الأولى.
ورد على ديجول بأنه لن يطلق الرصاصة الأولى.
ثم بعث إلى ديجول بملخص رسالة جونسون إليه، وأضاف إليها تأكيده بأنه سيبذل كل جهده للتعاون مع السكرتير العام للأمم المتحدة.
وحرك مجموعة عدم الانحياز كلها.
واستغل رصيده الضخم فى أفريقيا كواحد من مؤسسى منظمة الوحدة الإفريقية.
وحين جاء "يوثانت" إلى القاهرة، التقى به جمال عبد الناصر ومعه الدكتور محمود فوزى مستشاره للشئون الخارجية وقتها، والسيد محمود رياض وزير خارجيته وكان الاجتماع الحاسم مع يوثانت يوم 24 مايو.
وفى هذا الاجتماع بدأ جمال عبد الناصر يعرض تطورات الحوادث، ثم بدأ يعرض وجهات نظره، واستمر الحوار ساعات. ثم خرج يوثانت باقتراح محدد.
قال بالحرف:
- "سيادة الرئيس... نحن الآن نحتاج إلى وقت، ولذلك فإنى أفكر فى أن أطلب إلى جميع الأطراف أن يعلنوا "موراتوريوم" على "تصرفاتهم".
وسأله جمال عبد الناصر:
- ماذا تعنى "بموراتوريوم"؟
وقال يوثانت:
- "الامتناع عن الحركة.. تجميد الموقف على ما هو عليه..
أطلب منك مثلاً وقف إجراءات الحصار فى خليج العقبة.
أطلب من إسرائيل أن لا تتحدى الحصار.
وأطلب منك أن لا تفتش بواخر أطراف ثالثة.
وأطلب من كل الأطراف الثالثة أن لا تنقل بضائع استراتيجية إلى إسرائيل. أطلب تجميد الموقف".
وانتظر يوثانت ليرى أثر كلامه.
ولكن جمال عبد الناصر استأذنه فى أن يسمح له أن يتكلم بالعربية مع مساعديه: مستشاره الدكتور محمود فوزى ووزير خارجيته محمود رياض.. ودار حديث بين الثلاثة بالعربية، ويوثانت ينتظر.
والتفت جمال عبد الناصر إلى يوثانت وقال له:
- "إننى أريد أن أتعاون معك، إلى أقصى حد.
وإذا طلبت منى إعلان موراتوريوم فسوت أقبل، ولكن الأمر مرهون بقبول الأطراف الأخرى".
وقال يوثانت:
- لهذا فإنى لا أطلب ذلك منك الآن، وإنما سوف أطلبه بعد عودتى إلى نيويورك وبعد أن أتشاور مع كل الأطراف، وبالذات الدول الكبرى صاحبة العضوية الدائمة فى مجلس الأمن.
وسافر يوثانت.
ولم ينتظر جمال عبد الناصر ساكناً.
وإنما أصدر أوامره بتخفيف إجراءات الحصار عن خليج العقبة - إلا فيما يتعلق بالبواخر الإسرائيلية - وبتجنب أى حادث مفاجئ يمكن أن يفجره تطبيقها.
واصل اتصالاته مع ديجول.
وبعث وفداً خاصاً إلى موسكو.
وبعد أيام، وبالتحديد يوم 30 مايو جاءته الرسالة المنتظرة من يوثانت، وكان نصها - وأنا أنقل عن أوراق الأمم المتحدة - كما يلى بالحرف:
"سيادة الرئيس.
إننى أعرف من محادثاتى الأخيرة معكم ومع وزير الخارجية محمود رياض، أنكم تدركون تماماً الدوافع التى تدعونى إلى توجيه هذا النداء الشخصى والعاجل إليكم.
إنكم سوف تلاحظون أن ما أطلبه منكم ينبع فقط من رغبتى ومن مسئوليتى العميقة التى تدعونى إلى عمل كل شىء فى استطاعتى من أجل تفادى كارثة نشوب حرب جديدة فى الشرق الأوسط.
وخلال زيارتى للقاهرة فإن موقفكم وسياستكم فى مسألة خليج العقبة قد جرى إيضاحها لى، وأريد أن أركز على الأهمية الكبرى التى أعلقها على رد فعل إيجابى من جانبى لمناشدتى هذه لكم، بدون تأثير ضار على موقفكم أو سياستكم.
إننى أطلب وقتاً، ولو فسحة محدودة من الوقت، لكى أستطيع أن أعطى فرصة للمشاورات وللجهود الدولية التى تحاول أن تبحث عن مخرج من الموقف الحرج الراهن..
وأريد أن ألفت انتباهكم بصفة خاصة إلى ما قلته فى تقريرى إلى مجلس الأمن بتاريخ 26 مايو. إننى أرى أن إيجاد مخرج سلمى من هذه الأزمة يتوقف على فسحة من الوقت يمكن فيها تخفيف حدة التوتر من مستواه المتفجر الحالى.
وبناء على ذلك فإننى هنا أدعو جميع الأطراف المعنية إلى ممارسة ضبط النفس، وإلى تجنب أى أعمال عدائية يكون من شأنها زيادة التوتر..
وهدفى من ذلك أن أعطى مجلس الأمن فرصة لعلاج المشاكل التى تنطوى عليها الأزمة، والبحث عن حلول لها.
وإنى الآن أناشدك يا سيادة الرئيس، كما أناشد رئيس الوزراء أشكول وكل الأطراف المعنية إلى ممارسة الحذر عند هذا المنعطف الخطير.
وبالذات، وبدون طلب أى تعهدات منكم، أو حتى رد - فإنى أريد أن أعرب عن الأمل فى أن تمتنعوا خلال مدة أسبوعين من لحظة استلامكم لهذه الرسالة - عن أى تدخل فى الملاحة غير الإسرائيلية عبر مضايق تيران.
وفى هذا الخصوص فهل لى أن أخطركم - وفى كل الأحوال - أن لدى من الأسباب ما يجعلنى أفهم أنه فى الظروف العادية فإنه ليس متوقعاً أن تحاول أى باخرة إسرائيلية عبور مضايق تيران خلال مدة الأسبوعين المحددين.. بل إنى أستطيع أن أؤكد لكم، حسب أدق المعلومات لدى، بأنه خلال السنتين والنصف الأخيرتين لم تقم أى باخرة ترفع العلم الإسرائيلى بالمرور فى مضايق تيران.
وأستطيع أن أكرر لكم، يا سيادة الرئيس، أننى بصفة خاصة، وكذلك المجتمع الدولى كله بصفة عامة، سوف نقدر تقديراً كبيراً هذه المبادرة من جانبكم.
وأرجوكم أن تقبلوا يا سيادة الرئيس أصدق أمانى واحترامى الشخصى.
يوثانت
هذه البرقية - وهى تنشر الآن لأول مرة - كان لها تأثير كبير فى القاهرة، وكانت دراستها تفصيلاً تعطى إشارات واضحة:
1- إن هذه الرسالة لم تكن لتصدر عن يوثانت إلا وهى موضع اتفاق بين القوى الكبرى، وبالذات الولايات المتحدة.
2- إن التأكيد على عدم توقع مرور بواخر إسرائيل تتحدى الحصار معناه أن يوثانت كان على اتصال مباشر أو غير مباشر بإسرائيل.
3- إن حدة الأزمة ربما تتوقف عند الدرجة التى بلغتها الآن.
4- إن هناك أسبوعين قادمين من الانتظار قبل أن تتحرك الحوادث.
كانت هذه الرسالة بتاريخ 30 مايو.
ثم تأكد هذا كله برسالة الرئيس "جونسون" المباشرة إلى جمال عبد الناصر يرجوه فى مقابلة ممثل شخصى له، وهو "روبرت أندرسون"، الذى جاء بالفعل وقابل جمال عبد الناصر، ثم تم الاتفاق بينهما على رحلة يقوم بها نائب رئيس الجمهورية المصرى السيد زكريا محى الدين إلى واشنطن لمقابلة الرئيس "جونسون" والتباحث معه. ثم غادر "أندرسون" القاهرة، وبعث إلى جمال عبد الناصر ببرقية من روما يؤكد فيها أن الرئيس الأمريكى سوف يكون فى انتظار زكريا محى الدين صباح يوم الثلاثاء 6 يونيو!.
... ثامناً - ماذا حدث إذن بعد ذلك؟
كان من حق جمال عبد الناصر أن يستريح، وأن يتصور أن التوتر تخف حدته، والغريب أنه لم يسترح وإنما ذهب يوم الجمعة 2 يونيو ليحضر اجتماعاً للقيادة العامة للقوات المسلحة، يقول فيه:
- إنه يخشى من الأيام الثلاثة القادمة.
وكان فى تلك الفترة بين عاملين:
* عامل الاطمئنان على سير تطورات الحركة السياسية.
* عامل القلق على احتمالات ضربة إسرائيلية مفاجئة، ثم كان فى ذهنه أنه مهما كانت الظروف فإن القوات المسلحة قادرة على خوض معركة دفاعية طويلة النفس.
وما لم يكن يعرفه جمال عبد الناصر فى ذلك الوقت هو أن الولايات المتحدة - كما ثبت عملياً فيما بعد - كانت تتحرك بسياستين:
* سياسة فى وزارة الخارجية.
* وسياسة أخرى فى وكالة المخابرات المركزية.
كانت وزارة الخارجية تتعامل مع يوثانت... أو هكذا تقول!
وكانت المخابرات المركزية تتعامل مع المؤسسة العسكرية فى إسرائيل وهذا الآن مؤكد!
وجاء صباح يوم الاثنين 5 يونيو، واختلفت التطورات مع تقديرات جمال عبد الناصر، خصوصاً فيما يتعلق "بمعركة دفاعية ذات نفس طويل".
ووقع الخطئان القاتلان:
1- ضربة الطيران الإسرائيلى، والطريقة التى نجحت بها هذه الضربة.
2- قرار الانسحاب من سيناء، وقد صدر صباح 6 يونيو.
وأخفيت جسامة ضربة الطيران عن جمال عبد الناصر... ولم يعرف بقرار الانسحاب، إلا بعد صدوره بوقت طويل. ولا أريد أن أخوض هنا فى تفاصيل أكثر..
... تاسعاً - الهزيمة.
لقد نسينا عندما وقعت الهزيمة أن حربنا مستمرة.
1- كان شعورنا بالمهانة شديداً، ولهذا أسباب تبرره، ولكننا كان يجب أن ندرك أن بين أهداف أعداء العرب تلطيخ سمعة الجيش المصرى، وإقناع الشعب المصرى والأمة العربية أنه ليس فى مقدور أيهما أن يعتمد عليه. كان من أهدافهم أن يسقونا الشعور بالمهانة، وأن يترسب هذا الشعور بالمهانة إلى أعماق أعماقنا... وساعدناهم وشربنا.
لقد هزمت أمم قبلنا فى معارك، ولكنها لم تعتبر هزيمة معركة خسارة للحرب، طالما أنها تملك إرادتها.
لم تشعر أمريكا بالمهانة بعد "بيرل هاربور" وقيام السلاح الجوى اليابانى بتدمير كل الأسطول الأمريكى... وإنما شعرت بالتصميم.
ولم تشعر بريطانيا بعد الهزيمة الساحقة فى "دنكرك"... وإنما شعرت بالتصميم.
بل أن فرنسا التى استسلمت لهتلر.. استغلت مقاومة ضابط واحد رفض الهزيمة، وهو "ديجول"... واعتبرته ممثلاً لإرادتها، واعتبرت انتصار الحلفاء انتصاراً لها.
أما نحن، فلم نفعل ذلك.
كانوا يريدون أن يصدروا لنا المهانة... وكنا نحن على استعداد، وبشدة، أن نستوردها!
2- كان الشعور فى العالم العربى بخيبة الأمل شديداً - وكان له ما يبرره بطبيعة الحال - ولكن كان لا بد أن يتذكر الجميع أنه بداية ونهاية ليس هناك غير هذا الجيش المصرى فى الخط الأول - ومع جيوش عربية أخرى - يستأنف القتال.
3- الغريب أنه مع ظهور دور "التواطؤ" الأمريكى، فقد ظل اللوم يصب على مصر وقيادتها وجيشها بمنطق هؤلاء الذين "لا يقولون للضارب لا تضرب ولكن يقولون للمضروب لا تصرخ"!
... عاشراً - مسئولية جمال عبد الناصر.
وجمال عبد الناصر مسئول، ولا يمكن لأحد أن يعفيه من مسئوليته، بل ولم يقبل هو بديلاً عن الاعتراف بها كاملة، ولم يتمسح بشىء، ولا توارى خلف أحد.
وعندما يجىء وقت الحكم التاريخى عليه فى مسألة الهزيمة، فلابد أن توضع فى الاعتبار عوامل كثيرة:
1- ظروف الأزمة وتداعيها، وهل كان فى وسعه أن يتقاعس عن نجدة سوريا؟
2- قيادته للحركة السياسية فى الأزمة، والطريقة حاول بها تفادى الانفجار.
3- تمثيله للإرادة العربية فى الصمود بعد الهزيمة، وهذا فى حد ذاته من أمجد مواقفه، فالهزيمة الحقيقية هى هزيمة الإرادة، وليست الهزيمة هى التراجع عن أرض... خصوصاً وأن الصراع طويل ومستمر.
4- نجاحه فى إعادة بناء القوات المسلحة فى ظرف ستة شهور من الهزيمة.
5- عودته إلى ميدان القتال طبقاً لسياسة الدفاع - والردع - والتحرير، وقد بلغت عودته إلى ميدان القتال قمتها فى حرب الاستنزاف التى هى الجولة الرابعة فى الحرب العربية - الإسرائيلية.
6- استعداده وتخطيطه لمعركة التحرير.
7- ثم أن الهزيمة بكل مسئولياتها يجب أن توضع فى إطارها من كفاحه كله، فلم تكن معركة 5 يونيو هى معركته الوحيدة، وإنما كانت واحدة من معاركه... نجح فى بعضها، ولم ينجح فى البعض الآخر.
وبعد مئات السنين، وحينما يكتب التاريخ بشرف وأمانة، وبغير أحقاد وعقد، فإن التاريخ سوف ينصف جمال عبد الناصر حتى فى هزيمة سنة 1967... أبسط ما سوف يقال عنه:
أنه كان رجلاً... تحمل مسئوليته بشجاعة، وتقبل الحساب عنها فى كبرياء..
ومثل كرامة وإرادة أمة بأسرها فى يوم من أحلك أيامها... وكان وسط الظلام والعواصف والمؤامرات الدولية: إنساناً آمن بوطنه وأمته وبمثلهما العليا، وأعطى حياته لخدمة هذه المثل بشرف، وأصاب مرات وأخطأ مرات، لكنه حارب طول الوقت بإيمان ويقين، ولم يستسلم حتى النفس الأخير.. وكذلك يفعل الرجال.
الحديث التاسع
ثم يصلون إلى سنة 1967، وهزيمتها المؤلمة، يقولون:
- "والهزيمة... مسئوليته عن الهزيمة سنة 1967؟".
وأقول على الفور:
- إن جمال عبد الناصر مسؤول عمّا حدث سنة 1967، وقد قبل هو بتحمل كل المسئولية فيما جرى، وصارح بذلك شعبه وأمته، وكانت رغبتهما بعد ذلك معاً هى الطلب بأن يظل فى موقعه ويقود الحرب... لقد خسرنا معركة، ولكن الحرب مستمرة!
ولعلى أقول بعد ذلك أن مسئولية عبد الناصر، فى الدرجة الأولى، تنبع من سببين:
* السبب الأول: الخطأ فى حسابات عملية إغلاق خليج العقبة.
* السبب الثانى: الخطأ فى ترك المشير عبد الحكيم عامر يقود المعركة فعلاً، بينما هو - علمياً - لا يصلح لقيادتها، لأنه تحول فى الحقيقة عند رتبة الرائد، من ضابط إلى سياسى.
ومع ذلك، فلكى توضع مسؤولية جمال عبد الناصر فى إطارها العملى والتاريخى فإنه يتحتم علينا إلقاء نظرة واسعة على الصورة العامة للموقف السياسى والعسكرى، كما بدت أمامه وقتها.
... أولاً - أبدأ برؤيته العامة لمجرى الصراع العربى - الإسرائيلى.
كان جمال عبد الناصر حريصاً كل الحرص فيما يتعلق بالصدام المسلح مع إسرائيل لعدة أسباب:
1- كان يرى أن الصدام المسلح مع إسرائيل لابد فيه من حساب احتمالات التدخل الأمريكى، وهو احتمال قائم يستهدف فرض الهزيمة على العرب - إذا استطاع - أو سلبهم ثمار النصر - إذا استطاعوا - وإذن فإن نجاح الصدام المسلح فى رأيه كان مرهوناً بظرف دولى وعربى ملائم تكون فيه القوة الأمريكية مصابة بالشلل، أو يمكن إصابتها به.
2- كان رأيه أن القوات المسلحة المصرية تحتاج على الأقل إلى خمسة عشر عاماً تستوعب فيها سلاحها الذى حصلت عليه من الاتحاد السوفيتى، ولم يكن يقيس هذه المدة بتاريخ عقد أول صفقة سلاح سنة 1955، وإنما كان يقيس ابتداءً من سنة 1957 - ومن هنا، فقد كانت الفترة المحتملة للصدام المسلح فى تقديره هى الفترة الواقعة ما بين سنة 1972 وسنة 1975.
3- حتى يجىء هذا الوقت وتسنح فرصته، فقد كان جمال عبد الناصر يعتقد اعتقاداً راسخاً فى سياسة يسميها هو "سياسة السنطة وشعرة ذيل الحصان"، وهى تسميه مستمدة من حياة صعيد مصر وممارساته اليومية، وكان جمال عبد الناصر يشرح سياسته، فيقول:
"إن السنطة نوع من البثور يظهر على الجسم ويتكلس، وأهل الصعيد فى مصر يعالجونه بأن يجىء الواحد منهم بشعرة من ذيل حصان ويلفها حول النمو الدخيل على جسده، ثم يحكم شدها بحيث يحبس مرور الدم إليها، وتبدأ الإصابة بعد أيام تتجمد، ثم تبدأ فى الذبول، ثم تقع من تلقاء نفسها".
وكان رأى جمال عبد الناصر أن إسرائيل نمو دخيل فى وسط الجسد العربى، وأن مقاطعتها وإحكام الحصار من حولها وتشديد الضغط عليها كل يوم، سوف يؤدى إلى حبس الدم عن خلاياها، ومن ثم إلى ضمورها وسقوطها.
المهم أن نرفض التعامل معها باستمرار، المهم أن لا يخف حصارنا عنها طول الوقت، المهم أن تحس بضغطنا من حولها ليل نهار.. وحتى إذا اضطررنا بعد ذلك إلى استعمال القوة المسلحة، فإن استعمال القوة يجىء فى أكثر الظروف ملاءمةً.
وكانت له نظريته فى استعمال القوة المسلحة مع إسرائيل، كان يرى أن الظروف العالمية لا تعطى العرب فرصة تحقيق نصر حاسم نهائى فى معركة واحدة..
وهكذا ظل يتصور سلسلة من المعارك تحقق كل منها نصراً جزئياً - عسكرياً وسياسياً - ثم يكون من أثر تراكم هذه الانتصارات كلها أن يشعر المشروع الصهيونى فى فلسطين بأن لا أمل له فى البقاء.
... ثانياً - تصوره العام لمجرى الصراع سنة 1967.
مع بداية سنة 1967، فإن جمال عبد الناصر راح يتابع صورة التطورات فى الشرق الأوسط باهتمام مشوب بحذر شديد - لعدة أسباب:
1- كان يشعر أن علاقاته بالولايات المتحدة الأمريكية قد وصلت إلى نقطة عنف شديد عبر عنها قرار الرئيس الأمريكى "ليندون جونسون" بوقف بيع القمح الأمريكى إلى مصر.
2- لم يكن يستبعد، والأمر كذلك، أن تلجأ الولايات المتحدة إلى "الرادع الإسرائيلى"، كما فعلت بريطانيا وفرنسا فى حرب السويس سنة 1956.
3- كان يرى أن الظروف غير ملائمةً له عسكرياً بسبب وجود فرقتين من الجيش المصرى فى اليمن وقتها، وكان يقدر أنه إذا أرادت إسرائيل استغلال فرصة، فهذه هى الفرصة المتاحة لها، وكان قد حاول من قبل أكثر من مرة أن ينهى معركة اليمن، ولكن محاولاته جميعاً لم تصل إلى نتيجة، وتلك قصة أخرى على أى حال!
ومن المفارقات أن الملك حسين ملك الأردن بعث إليه فى ذلك الوقت برسالة مع الفريق عبد المنعم رياض، يحذره فيها من مؤامرة تستهدف جره إلى معركة فى ظروف غير ملائمة - وكان ذلك متفقاً مع إحساسه العام.
... ثالثاً - موقفه إزاء التهديد الموجه إلى سوريا.
عندما بدأ ليفى أشكول - رئيس وزراء إسرائيل فى ذلك الوقت - وتبعه إسحاق رابين - رئيس هيئة أركان حرب الجيش الإسرائيلى - يوجهان التهديدات الصريحة إلى سوريا، ويتحدثان علناً عن "الزحف على دمشق"، بدأ جمال عبد الناصر يتقصى حجم الخطر الموجه إلى سوريا..
وتصادف فى ذلك الوقت أن كان أنور السادات فى موسكو عائداً من رحلة فى "كوريا الشمالية"، فإذا بالرئيس "نيكولاى بادجورنى" يطلب إليه نقل رسالة إلى عبد الناصر عن الخطر الموجه إلى سوريا، وعن استعدادات إسرائيل لتوجيه ضربة إليها.
وتواترت معلومات عن حشد ما بين تسعة ألوية إلى أحد عشر لواءً أمام سوريا.
ثم تلقى جمال عبد الناصر من دمشق تقريراً بعث به السفير السورى هناك وقتها، وهو الأستاذ صلاح الطرزى، يقول: "أن مصادر موثوق بها أكدت له أن الهجوم على سوريا قد تحدد بالفترة ما بين 16 و22 مايو".
وهكذا واجهته ضرورة اتخاذ قرار، فلقد تأكدت أمامه احتمالات ضربة عسكرية موجهة إلى سوريا، ولم يكن فى مقدور مصر أن تقف مكتوفة اليدين.
(ولست أعرف ماذا كانوا يقولون عنه أو عن مصر لو أنه وقف ساكتاً، ولم يتحرك، وترك سوريا للغزو وحدها؟!).
... رابعاً - قراره بالحركة لمساعدة سوريا وتخفيف الضغط عنها.
كان عليه أن يتحرك قبل 16 مايو.
وفى يوم 13 مايو أصدر قراراً بحشد قوات مصرية فى سيناء تأهباً واستعداداً..
ونستطيع أن نتصور اتجاهات تفكيره فى تلك الفترة من خلال مقابلة بينه وبين "الدكتور إبراهيم ماخوس" وزير خارجية سوريا الذى طار للاجتماع به فى القاهرة يوم 16 مايو.
وبدأ الدكتور ماخوس يروى أمامه معلومات دمشق عن الحشود الإسرائيلية ونواياها، وعن تأكيدات السوفيت لهذه الحشود والتحذير منها.
ثم قال الدكتور ماخوس: "أن السوفيت أبلغوا السفير السورى فى موسكو بأنهم سوف يبذلون كل جهدهم لمساعدة سوريا فى أى شىء تتعرض له، حتى ولو اضطروا للتدخل العسكرى".
وبدأ جمال عبد الناصر يتكلم، وكان قوله بالحرف الواحد، نقلاً عن الوقائع الرسمية لتلك المقابلة:
"ليس واضحاً أمامى ما يستطيع السوفيت عمله لمساعدتكم. تقديراتنا أنهم سوف يعطون تأييداً معنوياً، ولكنى لا أرى فرصة لتدخلهم عملياً".
سوف يساعدون فى الأمم المتحدة، وربما وجهوا إنذاراً لأمريكا وإسرائيل، ولكن غير ذلك، ماذا يستطيعون؟.. كيف يتدخلون عملياً عبر تركيا أو إيران؟".
واستطرد جمال عبد الناصر:
- "إننا بحشد قواتنا فى سيناء أردنا أن نقوم بمظاهرة كبيرة، ولكى يكون من هذه المظاهرة رسالة لإسرائيل تجعلها تفكر مرة ثانية.
ولكنى أرجوكم أنتم فى سوريا أن تضبطوا أعصابكم، ولا تدفعوا الأمور إلى نقطة الخطر.
إننى لا أريد أن أقفل باب التراجع وراء إسرائيل. أريدهم أن يتراجعوا بهدوء، ولا أريد أن أجعل هذه العملية صعبة عليهم، فمن الخطر فى أوقات الأزمات أن تغلق وراء عدوك باب التراجع إذا لم تكن تريد الصدام الفورى معه".
واستطرد جمال عبد الناصر:
- "خطتى الآن أن أترك قوات الطوارئ فى شرم الشيخ وغزة.
لقد طلبنا سحبهم من الخط الواقع بين "طابا" و"رفح" لفتح خط المواجهة أمام تدخلنا، لو اضطررنا إلى ذلك.
لكن خروجهم من "شرم الشيخ" سوف يؤدى إلى تعقيدات كثيرة، ثم أن خروجهم من قطاع غزة ليس فى صالحنا، لأننا لا نستطيع الدفاع عن القطاع فى حالة نشوب عمليات.. من ناحية لأنه ليس لنا فيه قوات ثقيلة بحكم اتفاقيات الهدنة، ومن ناحية أخرى لأن القطاع لا يسمح بأى مناورة فى الحركة.
وأريدكم فى دمشق أن تعرفوا أن الموقف دقيق، وعلينا أن نعالجه بأعصاب باردة، وأنا أطلب منكم أن تساعدونى بالامتناع عن أى عمل استفزازى فى هذه الظروف الساخنة".
وخرج الدكتور إبراهيم ماخوس، ويلفت النظر أن جمال عبد الناصر استدعى بعده مباشرةً سفير الاتحاد السوفيتى فى القاهرة، وهو وقتها السفير "بويجداييف"، وقال له:
- "إنى أريدهم أن يعرفوا فى موسكو أننا أخذنا بعض التدابير العسكرية بناءً على ما أكدوه لنا من معلومات عن الحشود الإسرائيلية.. إن ما قالوه لأنور السادات كان العامل الأكثر تأكيداً لما كان لدينا من معلومات. وبالتالى، فإنى أريدهم فى هذه الفترة أن يتنبهوا إلى ما يجرى فى الشرق الأوسط، خصوصاً وهم يتحملون - أدبياً - جزءً كبيراً من مسئولية تطورات الحوادث".
... خامساً - قرار إغلاق خليج العقبة.
كان الطلب المصرى الأساسى هو إخلاء قوات الأمم المتحدة من خط المواجهة بين "طابا" و"رفح"..
ولكن "يوثانت" السكرتير العام للأمم المتحدة، بناءً على نصيحة من مساعده الأمريكى الدكتور "رالف بانش"، قال إن "عمل قوات الطوارئ هو مهمة سلام لا تتجزأ".
وبالتالى "فليس هناك مجال لسحب جزء من القوة وإبقاء جزء منها، لأن وجود القوة فى رأيه "مهمة " تؤديها بالكامل أو تتخلى عنها بالكامل.
وإذن فهى إما أن تبقى فى مواقعها كما هى، وإما أن تنسحب من جميع مواقعها، وهذا حق مصر على أى حال بمقتضى اتفاقها مع سلفه داج همرشولد سنة 1957".
ولم يكن أمام جمال عبد الناصر من حل إلا أن يطلب سحب القوة من كل مواقعها، وإلا فإن هذه القوة سوف تكون مانعاً بينه وبين أى عمل لنجدة سوريا.
وكان طلب خروج القوة كلها.
ووصلت وحدات الجيش المصرى إلى شرم الشيخ.
وطرحت حكاية خليج العقبة نفسها على الموقف.
يقفل الخليج أو لا يقفل فى وجه الملاحة الإسرائيلية؟
إن إغلاق الخليج حق مصرى بمقتضى قوانين السيادة والحرب.
ثم إن إغلاق الخليج أمام الملاحة الإسرائيلية كان مطلباً عربياً يلح به الكل على مصر، ولكن القرار لابد أن يصدر بعد دراسة مسئولة.
ودعيت اللجنة التنفيذية العليا لاجتماع طارئ، وطرح أمامها موضوع إغلاق خليج العقبة، وقررت اللجنة بإجماع الآراء إغلاق الخليج أمام الملاحة الإسرائيلية تمسكاً بحق السيادة، ونزولاً على مقتضيات حالة الحرب، واستجابةً لمطلب عربى ملح، ثم إقراراً بأمر واقع نشأ عن سحب قوة الطوارئ الدولية من كل سيناء.
اللجنة كلها - بإجماع الآراء - قررت، ولم يكن القرار انفرادياً من جمال عبد الناصر.
(الغريب أننى كتبت فى ذلك الوقت محذراً من مخاطر إغلاق خليج العقبة، قائلاً أن هذا القرار يعنى الحرب. ويومها اُتهمت علناً بالانهزامية، وبين الذين اتهمونى وقتها بعض الذين يتهمون جمال عبد الناصر اليوم بالتهور فى ذلك القرار!).
... سادساً - تقدير جمال عبد الناصر لاحتمالات الحرب.
فى ذلك الوقت كانت كل المعلومات تشير إلى أن اتجاه الحشود الإسرائيلية قد تغير، فلقد راحت القوات التى كانت فى شمال إسرائيل إلى جانب قوات أخرى - تندفع بأقصى سرعة إلى الجنوب.
واستدعى جمال عبد الناصر سفير الاتحاد السوفيتى مرة أخرى إلى مقابلته ليقول له:
- "أن الحشود كلها الآن على الجبهة المصرية.
لم يعد الخطر الإسرائيلى موجهاً إلى سوريا، وإنما هو الآن موجه إلى مصر".
وفى نفس الوقت كان تقدير جمال عبد الناصر كما يلى:
1- إنه سوف يبذل جهداً سياسياً مكثفاً لكى يحول دون اندلاع عمليات عسكرية.
2- إن نسبة احتمال نشوب عمليات عسكرية سوف تقل مع الوقت ومع نقل التركيز من المجال العسكرى إلى المجال السياسى.
3- إذا حدث ونشبت عمليات عسكرية فإن القوات المسلحة المصرية سوف تكون قادرة على خوض معركة دفاعية طويلة، إما على الخط الأول قرب الحدود الدولية، وإما على الخط الثانى فى وسط سيناء إذا اقتضى الأمر..
وإذا طالت المعركة الدفاعية فإن إسرائيل لا تستطيع تحمل استمرارها بوضع التعبئة العامة الكاملة.
4- إن نشوب عمليات عسكرية فى الشرق الأوسط سوف يخلق أزمة مواجهة عالمية، وذلك سوف يضغط بشدة من أجل وقف إطلاق النار وعودة القوات إلى مواقعها الأصلية.
وهكذا بدت المهمة الأولى أمام جمال عبد الناصر أن يتحرك سياسياً بأوسع ما يمكن.
... سابعاً - الحركة السياسية لجمال عبد الناصر وقتها.
فى تلك الظروف بدأ جمال عبد الناصر حركة سياسية، لعلها من أصعب ما قام به فى حياته، وكان يتحرك طول الوقت، وبأقصى ما يمكن من الفهم والحذر، وكان يشعر أنه فى سباق مع الزمن ومع الخطر.
وجاءته رسالة من الرئيس الأمريكى "ليندون جونسون" يناقش فيها تطورات الموقف معه، ثم يطلب إليه أن يبحث معه عن صيغة لمعالجة الموقف، ثم يقول فى نهاية الرسالة:
"أن الولايات المتحدة - وقوى أخرى - طلبت إلى السكرتير العام للأمم المتحدة يوثانت أن يطير إلى منطقة الأزمة، وأن يرى ما يمكن عمله على الطبيعة، وإنى أناشدكم أن تتعاونوا معه إلى أقصى حد ممكن".
ورد جمال عبد الناصر بأنه "سيبذل كل جهده ليفتح سبلاً أمام يوثانت، ولا يغلق أمامه طريقاً يمكن أن يؤدى إلى تخفيف حدة التوتر".
وتمكن جمال عبد الناصر من تجنيد كل جهد الجنرال ديجول الرئيس الفرنسى.
بعث إليه ديجول يرجوه أن لا يطلق الرصاصة الأولى.
ورد على ديجول بأنه لن يطلق الرصاصة الأولى.
ثم بعث إلى ديجول بملخص رسالة جونسون إليه، وأضاف إليها تأكيده بأنه سيبذل كل جهده للتعاون مع السكرتير العام للأمم المتحدة.
وحرك مجموعة عدم الانحياز كلها.
واستغل رصيده الضخم فى أفريقيا كواحد من مؤسسى منظمة الوحدة الإفريقية.
وحين جاء "يوثانت" إلى القاهرة، التقى به جمال عبد الناصر ومعه الدكتور محمود فوزى مستشاره للشئون الخارجية وقتها، والسيد محمود رياض وزير خارجيته وكان الاجتماع الحاسم مع يوثانت يوم 24 مايو.
وفى هذا الاجتماع بدأ جمال عبد الناصر يعرض تطورات الحوادث، ثم بدأ يعرض وجهات نظره، واستمر الحوار ساعات. ثم خرج يوثانت باقتراح محدد.
قال بالحرف:
- "سيادة الرئيس... نحن الآن نحتاج إلى وقت، ولذلك فإنى أفكر فى أن أطلب إلى جميع الأطراف أن يعلنوا "موراتوريوم" على "تصرفاتهم".
وسأله جمال عبد الناصر:
- ماذا تعنى "بموراتوريوم"؟
وقال يوثانت:
- "الامتناع عن الحركة.. تجميد الموقف على ما هو عليه..
أطلب منك مثلاً وقف إجراءات الحصار فى خليج العقبة.
أطلب من إسرائيل أن لا تتحدى الحصار.
وأطلب منك أن لا تفتش بواخر أطراف ثالثة.
وأطلب من كل الأطراف الثالثة أن لا تنقل بضائع استراتيجية إلى إسرائيل. أطلب تجميد الموقف".
وانتظر يوثانت ليرى أثر كلامه.
ولكن جمال عبد الناصر استأذنه فى أن يسمح له أن يتكلم بالعربية مع مساعديه: مستشاره الدكتور محمود فوزى ووزير خارجيته محمود رياض.. ودار حديث بين الثلاثة بالعربية، ويوثانت ينتظر.
والتفت جمال عبد الناصر إلى يوثانت وقال له:
- "إننى أريد أن أتعاون معك، إلى أقصى حد.
وإذا طلبت منى إعلان موراتوريوم فسوت أقبل، ولكن الأمر مرهون بقبول الأطراف الأخرى".
وقال يوثانت:
- لهذا فإنى لا أطلب ذلك منك الآن، وإنما سوف أطلبه بعد عودتى إلى نيويورك وبعد أن أتشاور مع كل الأطراف، وبالذات الدول الكبرى صاحبة العضوية الدائمة فى مجلس الأمن.
وسافر يوثانت.
ولم ينتظر جمال عبد الناصر ساكناً.
وإنما أصدر أوامره بتخفيف إجراءات الحصار عن خليج العقبة - إلا فيما يتعلق بالبواخر الإسرائيلية - وبتجنب أى حادث مفاجئ يمكن أن يفجره تطبيقها.
واصل اتصالاته مع ديجول.
وبعث وفداً خاصاً إلى موسكو.
وبعد أيام، وبالتحديد يوم 30 مايو جاءته الرسالة المنتظرة من يوثانت، وكان نصها - وأنا أنقل عن أوراق الأمم المتحدة - كما يلى بالحرف:
"سيادة الرئيس.
إننى أعرف من محادثاتى الأخيرة معكم ومع وزير الخارجية محمود رياض، أنكم تدركون تماماً الدوافع التى تدعونى إلى توجيه هذا النداء الشخصى والعاجل إليكم.
إنكم سوف تلاحظون أن ما أطلبه منكم ينبع فقط من رغبتى ومن مسئوليتى العميقة التى تدعونى إلى عمل كل شىء فى استطاعتى من أجل تفادى كارثة نشوب حرب جديدة فى الشرق الأوسط.
وخلال زيارتى للقاهرة فإن موقفكم وسياستكم فى مسألة خليج العقبة قد جرى إيضاحها لى، وأريد أن أركز على الأهمية الكبرى التى أعلقها على رد فعل إيجابى من جانبى لمناشدتى هذه لكم، بدون تأثير ضار على موقفكم أو سياستكم.
إننى أطلب وقتاً، ولو فسحة محدودة من الوقت، لكى أستطيع أن أعطى فرصة للمشاورات وللجهود الدولية التى تحاول أن تبحث عن مخرج من الموقف الحرج الراهن..
وأريد أن ألفت انتباهكم بصفة خاصة إلى ما قلته فى تقريرى إلى مجلس الأمن بتاريخ 26 مايو. إننى أرى أن إيجاد مخرج سلمى من هذه الأزمة يتوقف على فسحة من الوقت يمكن فيها تخفيف حدة التوتر من مستواه المتفجر الحالى.
وبناء على ذلك فإننى هنا أدعو جميع الأطراف المعنية إلى ممارسة ضبط النفس، وإلى تجنب أى أعمال عدائية يكون من شأنها زيادة التوتر..
وهدفى من ذلك أن أعطى مجلس الأمن فرصة لعلاج المشاكل التى تنطوى عليها الأزمة، والبحث عن حلول لها.
وإنى الآن أناشدك يا سيادة الرئيس، كما أناشد رئيس الوزراء أشكول وكل الأطراف المعنية إلى ممارسة الحذر عند هذا المنعطف الخطير.
وبالذات، وبدون طلب أى تعهدات منكم، أو حتى رد - فإنى أريد أن أعرب عن الأمل فى أن تمتنعوا خلال مدة أسبوعين من لحظة استلامكم لهذه الرسالة - عن أى تدخل فى الملاحة غير الإسرائيلية عبر مضايق تيران.
وفى هذا الخصوص فهل لى أن أخطركم - وفى كل الأحوال - أن لدى من الأسباب ما يجعلنى أفهم أنه فى الظروف العادية فإنه ليس متوقعاً أن تحاول أى باخرة إسرائيلية عبور مضايق تيران خلال مدة الأسبوعين المحددين.. بل إنى أستطيع أن أؤكد لكم، حسب أدق المعلومات لدى، بأنه خلال السنتين والنصف الأخيرتين لم تقم أى باخرة ترفع العلم الإسرائيلى بالمرور فى مضايق تيران.
وأستطيع أن أكرر لكم، يا سيادة الرئيس، أننى بصفة خاصة، وكذلك المجتمع الدولى كله بصفة عامة، سوف نقدر تقديراً كبيراً هذه المبادرة من جانبكم.
وأرجوكم أن تقبلوا يا سيادة الرئيس أصدق أمانى واحترامى الشخصى.
يوثانت
هذه البرقية - وهى تنشر الآن لأول مرة - كان لها تأثير كبير فى القاهرة، وكانت دراستها تفصيلاً تعطى إشارات واضحة:
1- إن هذه الرسالة لم تكن لتصدر عن يوثانت إلا وهى موضع اتفاق بين القوى الكبرى، وبالذات الولايات المتحدة.
2- إن التأكيد على عدم توقع مرور بواخر إسرائيل تتحدى الحصار معناه أن يوثانت كان على اتصال مباشر أو غير مباشر بإسرائيل.
3- إن حدة الأزمة ربما تتوقف عند الدرجة التى بلغتها الآن.
4- إن هناك أسبوعين قادمين من الانتظار قبل أن تتحرك الحوادث.
كانت هذه الرسالة بتاريخ 30 مايو.
ثم تأكد هذا كله برسالة الرئيس "جونسون" المباشرة إلى جمال عبد الناصر يرجوه فى مقابلة ممثل شخصى له، وهو "روبرت أندرسون"، الذى جاء بالفعل وقابل جمال عبد الناصر، ثم تم الاتفاق بينهما على رحلة يقوم بها نائب رئيس الجمهورية المصرى السيد زكريا محى الدين إلى واشنطن لمقابلة الرئيس "جونسون" والتباحث معه. ثم غادر "أندرسون" القاهرة، وبعث إلى جمال عبد الناصر ببرقية من روما يؤكد فيها أن الرئيس الأمريكى سوف يكون فى انتظار زكريا محى الدين صباح يوم الثلاثاء 6 يونيو!.
... ثامناً - ماذا حدث إذن بعد ذلك؟
كان من حق جمال عبد الناصر أن يستريح، وأن يتصور أن التوتر تخف حدته، والغريب أنه لم يسترح وإنما ذهب يوم الجمعة 2 يونيو ليحضر اجتماعاً للقيادة العامة للقوات المسلحة، يقول فيه:
- إنه يخشى من الأيام الثلاثة القادمة.
وكان فى تلك الفترة بين عاملين:
* عامل الاطمئنان على سير تطورات الحركة السياسية.
* عامل القلق على احتمالات ضربة إسرائيلية مفاجئة، ثم كان فى ذهنه أنه مهما كانت الظروف فإن القوات المسلحة قادرة على خوض معركة دفاعية طويلة النفس.
وما لم يكن يعرفه جمال عبد الناصر فى ذلك الوقت هو أن الولايات المتحدة - كما ثبت عملياً فيما بعد - كانت تتحرك بسياستين:
* سياسة فى وزارة الخارجية.
* وسياسة أخرى فى وكالة المخابرات المركزية.
كانت وزارة الخارجية تتعامل مع يوثانت... أو هكذا تقول!
وكانت المخابرات المركزية تتعامل مع المؤسسة العسكرية فى إسرائيل وهذا الآن مؤكد!
وجاء صباح يوم الاثنين 5 يونيو، واختلفت التطورات مع تقديرات جمال عبد الناصر، خصوصاً فيما يتعلق "بمعركة دفاعية ذات نفس طويل".
ووقع الخطئان القاتلان:
1- ضربة الطيران الإسرائيلى، والطريقة التى نجحت بها هذه الضربة.
2- قرار الانسحاب من سيناء، وقد صدر صباح 6 يونيو.
وأخفيت جسامة ضربة الطيران عن جمال عبد الناصر... ولم يعرف بقرار الانسحاب، إلا بعد صدوره بوقت طويل. ولا أريد أن أخوض هنا فى تفاصيل أكثر..
... تاسعاً - الهزيمة.
لقد نسينا عندما وقعت الهزيمة أن حربنا مستمرة.
1- كان شعورنا بالمهانة شديداً، ولهذا أسباب تبرره، ولكننا كان يجب أن ندرك أن بين أهداف أعداء العرب تلطيخ سمعة الجيش المصرى، وإقناع الشعب المصرى والأمة العربية أنه ليس فى مقدور أيهما أن يعتمد عليه. كان من أهدافهم أن يسقونا الشعور بالمهانة، وأن يترسب هذا الشعور بالمهانة إلى أعماق أعماقنا... وساعدناهم وشربنا.
لقد هزمت أمم قبلنا فى معارك، ولكنها لم تعتبر هزيمة معركة خسارة للحرب، طالما أنها تملك إرادتها.
لم تشعر أمريكا بالمهانة بعد "بيرل هاربور" وقيام السلاح الجوى اليابانى بتدمير كل الأسطول الأمريكى... وإنما شعرت بالتصميم.
ولم تشعر بريطانيا بعد الهزيمة الساحقة فى "دنكرك"... وإنما شعرت بالتصميم.
بل أن فرنسا التى استسلمت لهتلر.. استغلت مقاومة ضابط واحد رفض الهزيمة، وهو "ديجول"... واعتبرته ممثلاً لإرادتها، واعتبرت انتصار الحلفاء انتصاراً لها.
أما نحن، فلم نفعل ذلك.
كانوا يريدون أن يصدروا لنا المهانة... وكنا نحن على استعداد، وبشدة، أن نستوردها!
2- كان الشعور فى العالم العربى بخيبة الأمل شديداً - وكان له ما يبرره بطبيعة الحال - ولكن كان لا بد أن يتذكر الجميع أنه بداية ونهاية ليس هناك غير هذا الجيش المصرى فى الخط الأول - ومع جيوش عربية أخرى - يستأنف القتال.
3- الغريب أنه مع ظهور دور "التواطؤ" الأمريكى، فقد ظل اللوم يصب على مصر وقيادتها وجيشها بمنطق هؤلاء الذين "لا يقولون للضارب لا تضرب ولكن يقولون للمضروب لا تصرخ"!
... عاشراً - مسئولية جمال عبد الناصر.
وجمال عبد الناصر مسئول، ولا يمكن لأحد أن يعفيه من مسئوليته، بل ولم يقبل هو بديلاً عن الاعتراف بها كاملة، ولم يتمسح بشىء، ولا توارى خلف أحد.
وعندما يجىء وقت الحكم التاريخى عليه فى مسألة الهزيمة، فلابد أن توضع فى الاعتبار عوامل كثيرة:
1- ظروف الأزمة وتداعيها، وهل كان فى وسعه أن يتقاعس عن نجدة سوريا؟
2- قيادته للحركة السياسية فى الأزمة، والطريقة حاول بها تفادى الانفجار.
3- تمثيله للإرادة العربية فى الصمود بعد الهزيمة، وهذا فى حد ذاته من أمجد مواقفه، فالهزيمة الحقيقية هى هزيمة الإرادة، وليست الهزيمة هى التراجع عن أرض... خصوصاً وأن الصراع طويل ومستمر.
4- نجاحه فى إعادة بناء القوات المسلحة فى ظرف ستة شهور من الهزيمة.
5- عودته إلى ميدان القتال طبقاً لسياسة الدفاع - والردع - والتحرير، وقد بلغت عودته إلى ميدان القتال قمتها فى حرب الاستنزاف التى هى الجولة الرابعة فى الحرب العربية - الإسرائيلية.
6- استعداده وتخطيطه لمعركة التحرير.
7- ثم أن الهزيمة بكل مسئولياتها يجب أن توضع فى إطارها من كفاحه كله، فلم تكن معركة 5 يونيو هى معركته الوحيدة، وإنما كانت واحدة من معاركه... نجح فى بعضها، ولم ينجح فى البعض الآخر.
وبعد مئات السنين، وحينما يكتب التاريخ بشرف وأمانة، وبغير أحقاد وعقد، فإن التاريخ سوف ينصف جمال عبد الناصر حتى فى هزيمة سنة 1967... أبسط ما سوف يقال عنه:
أنه كان رجلاً... تحمل مسئوليته بشجاعة، وتقبل الحساب عنها فى كبرياء..
ومثل كرامة وإرادة أمة بأسرها فى يوم من أحلك أيامها... وكان وسط الظلام والعواصف والمؤامرات الدولية: إنساناً آمن بوطنه وأمته وبمثلهما العليا، وأعطى حياته لخدمة هذه المثل بشرف، وأصاب مرات وأخطأ مرات، لكنه حارب طول الوقت بإيمان ويقين، ولم يستسلم حتى النفس الأخير.. وكذلك يفعل الرجال.

10:32 م
Posted in:
0 comments:
إرسال تعليق