الأربعاء، 28 مارس 2012

عبد الناصر والحركة العربية العامة

محمد حسنين هيكل
الحديث الثامن

ويقولون - ضمن ما يقولون - عن جمال عبد الناصر:

- لقد انقض على الأرض العربية كأنه الإعصار... زرع الشوك وحصد الورد، وأشاع الفتنة، وحبس الود بين أبناء الأمة الواحدة!!

فهل هذا صحيح؟

لكى نستطيع اختبار صحة هذا القول - ومثله - فربما كان مفيداً أن نعود بنظرة على الأرض العربية قبل جمال عبد الناصر:

1- كان الاستعمار البريطانى ما زال يقاوم شبه الجزيرة العربية، وفى مصر، والسودان، وليبيا، لكى يحتفظ بمواقعه المسيطرة القديمة، وكذلك كان يفعل الاستعمار الفرنسى فى شمال أفريقيا.

وكانت الشعوب العربية تقاوم السيطرة، ولكن ردها كان أضعف من التحدى، خصوصاً بعد أن حقق الاستعمار نجاحه الكبير بإنشاء إسرائيل قاعدةً له فى قلب الأمة العربية، تقطع امتداد أرضها، وتعوق وحدتها، وتمتص جهودها أولاً بأول.

وكانت قوى السيطرة الأمريكية واقفة على الباب تنتظر نتيجة المعركة الدائرة بين الاستعمار التقليدى وبين الوطنية العربية، وكانت خطتها أن تتقدم لتمسك بزمام الأمور إذا تحول اتجاه المعركة ضد الاستعمار التقليدى.

أو إذا عجز هذا الاستعمار التقليدى عن مواصلة دوره، بسبب الاستنزاف الذى تعرض له فى الحرب العالمية الثانية، ومثل هذا حدث فى تركيا واليونان، اللذين كان لبريطانيا فيهما دورٌ خاص اضطرت للتخلى عنه للولايات المتحدة التى أعلنت "مبدأ ترومان" وهرعت إلى التواجد العسكرى والسياسى فى تركيا واليونان سنة 1950.

ويلفت النظر أن هذه هى السنة نفسها التى تبلور فيها مشروع منظمة الدفاع عن الشرق الأوسط "ميدو" - كما أطلق عليها وقتها - ليكون حلقة فى سلسلة أحلاف الغرب المعادية للاتحاد السوفيتى - يملأ الفجوة المفتوحة بين حلف الأطلسى "ناتو"، وحلف جنوب شرق آسيا "سياتو" - وكانت هذه الأحلاف كلها تحت القيادة الأمريكية.

2- فى نفس الوقت كانت دلائل الصراع الاجتماعى - الصراع الطبقى - موجودة فى المنطقة، تعكس نفسها داخل كل بلد عربى، كما تعكس نفسها عبر كل الحدود العربية.

إن تعبير "الصراع الطبقى" ما زال يخيفنا، وما زلنا نتصوره شحنات من الكراهية، وذلك لا مبرر له. وإذا نظرنا إلى تاريخنا الاجتماعى - نظرة صدق موضوعى - لوجدنا على سبيل المثال:

أن الثورة التى قادها الملك عبد العزيز آل سعود كانت فى حقيقتها تعبيراً عن صراع طبقى دار فى إطار قبلى، وهو يصلح ليكون نموذجاً تقليدياً لنظرية ابن خلدون الشهيرة عن دورة الصراع بين البدو والحضر، وبين القبائل والمدن.

بل إن الخلافات الشهيرة فى ذلك الوقت بين الأسر الحاكمة فى المنطقة العربية كانت بشكلٍ ما تعبر عن صراع طبقى بين حكام مجتمعات القبائل وحكام مجتمعات التجار.

أعود إلى ما كنت أقوله:

كانت بوادر الصراع الطبقى موجودة فى كل بلد عربى.

وفى مصر مثلاً كان هذا الصراع بعد 26 يناير 1952 مشتعلاً بحريق القاهرة، ملطخاً بالدم الذى أساله العنف فى سنوات القلق التى عانتها مصر قبل الثورة.

ثم كانت بوادر الصراع الطبقى موجودة عبر الحدود العربية، متمثلةً فى خلافات الأسر الحاكمة، والحروب الصغيرة، وغارات الحدود، إلى آخره. وكان ذلك شيئاً طبيعياً من طبائع الحركة التاريخية ذاتها.

بل إننا نرى الآن أمام عيوننا صراعاً طبقياً يجرى على مستوى العالم كله، وليس على مستوى منطقة محددة ومحدودة فيه.

أليس هناك الآن نوع من الصراع الطبقى بين الدول المتقدمة والدول المتخلفة، يطلقون عليه - مجازاً - تعبير الصراع بين الشمال والجنوب؟

أليس حقيقياً أن جزءً كبيراً من التأييد الضخم الذى تلقاه الثورة الفلسطينية فى المجتمع الدولى، وفى الأمم المتحدة بالذات، يرجع إلى تعاطف كل المحرومين فى العالم النامى مع ثورة المحرومين من كل حق فى فلسطين؟

أليس حقيقياً أن الصراع الطبقى على المستوى العالمى هو من أكبر الأسباب التى دعت كوبا إلى الوقوف جنباً إلى جنب مع جنود الحركة الشعبية لتحرير أنجولا؟

إن كوبا - جغرافياً - لم تكن فى القارة، ولكنها - اجتماعياً - وقفت مع ثوارها. وجنوب أفريقيا - جغرافياً - جزء من القارة، ولكنها - بانتمائها الاجتماعى - وقفت ضد ثوارها.

3- كانت المنطقة كلها، رغم موقعها الاستراتيجى - وهو حقيقة اكتشفت من قديم الزمان - ورغم ثروتها المحتملة - وهى حقيقة اكتشفت على الأقل منذ بداية القرن - لا تمثل بذاتها أى قيمة، فى موازين القوى العالمية، فقد كان ثقلها كله يعود إلى من يسيطر عليها ويمسك بمقاديرها من بين القوى الكبرى الغالبة.

ولم يكن الاستعمار يحكم بنفسه، وإنما كان يستخدم عناصر ارتبطت مصالحها بمصالحه، وتناقضت بالتالى مصالحها مع مصالح الجماهير التى تسلطت عليها.

وبالتالى، فقد كان كفاح شعوب المنطقة لتحقيق ذاتها وتأكيد تأثيرها على موازين القوى عن طريق التخلص من السيطرة السياسية - هو فى نفس الوقت صراع اجتماعى ضد الاستغلال المحلى بأشكاله المختلفة.

ومن هذه الحقيقة الرئيسية، فلقد تداعت حقائق أخرى، أبرزها أن الحكم على أصالة أى حركة وطنية سياسية أصبح مرهوناً برؤيتها الاجتماعية.

كانت الصراعات إذن قبل جمال عبد الناصر موجودة بالطول وبالعرض على الأرض العربية، ولم يأت بها جمال عبد الناصر من عنده، ولا التقطها من الفراغ التقاطاً لكى يفرضها على الأمة وشعوبها.

ومع ذلك فلنأخذ مثالاً نطبق عليه، ولنأخذ المثال من أول خلاف عربى قاده جمال عبد الناصر، وهو خلاف اختفى الآن جميع أبطاله، وهذا مناسب لأنه يطرح كل الحساسيات جانباً.

لنأخذ خلافه مع نورى السعيد ما بين سنة 1953 إلى سنة 1958، ففى تلك السنوات الخمس انقسم العالم العربى على نفسه كما لم ينقسم من قبل ولا من بعد.

كان موضوع الخلاف هو حلف بغداد - الذى قام تطويراً لفكرة منظمة الدفاع عن الشرق الأوسط "ميدو" - وهل ينضم إليه العرب بحثاً عن مستقبلهم، أو لا ينضمون إليه حرصاً على مستقبلهم؟

نأخذ هذا الخلاف، وحجج الطرفين فيه، ونقارن:

- كانت مصر، ومن قبل الثورة - وتابعتها فى ذلك دول عربية أخرى - قد رفضت فكرة منظمة الدفاع عن الشرق الأوسط، فقد وجدتها صيغة جديدة من صيغ السيطرة الاستعمارية.

ثم عرض هذا المشروع على جمال عبد الناصر بعد الثورة، فكرر رفضه أيضاً.

وكان جمال عبد الناصر أكثر وضوحاً فى رفضه، فقد كان يريد للعرب أن يقيموا "نظاماً عربياً" شاملاً لهم على أساس وحدة الأمة مصلحةً وأمناً.

ولا يريد نظام "شرق أوسط" يقوم على تعبير جغرافى اخترعته أثناء الحرب العالمية مطالب هذه الحرب وإستراتيجياتها.

وكان جمال عبد الناصر يرى أن "نظام الشرق الأوسط" سوف يشمل تركيا وإيران وباكستان، وربما إسرائيل أيضاً ولو حتى بطريق غير مباشر.

ولم يكن يرى وحدة مصلحة أو أمن بين العرب وبين هذه الدول.

وربما كان يرى معها - باستثناء إسرائيل - فرصة للتعاون والتنسيق، ولكن النظام يجب أن يكون غير النظام.

ولم يكن عنده مانع أن تنضم تركيا وإيران وباكستان إلى حلف للنطاق الشمالى من الشرق الأوسط، لكنه بالنسبة للعرب كان يتصور شيئاً آخر: نظام عربى - كما قلت - يستند على:

* جامعة الدول العربية - إطار سياسى.

* ميثاق الدفاع العربى المشترك - عمل عسكرى موحد.

* سوق عربية مشتركة - اقتصاد يتكامل باستمرار.

- فى مقابل ذلك، خرج نورى السعيد برأىٍ آخر يؤيد حلفاً مع الغرب، وكان رأيه أن بريطانيا لن تخرج من مصر والعراق إلا إذا اطمأنت إلى أنه ليس هناك فراغ دفاعى ينشأ فى المنطقة بعد خروجها، وبالتالى فالارتباط بالأحلاف هو الوسيلة للخلاص من الاحتلال.

وكان نورى السعيد يرى أيضاً أن عهد الاستقلال التقليدى قد انتهى، وأن العالم الآن فى مرحلة "الاعتماد المتبادل" بين عديد من الأطراف التى تتفق مصالحها، خصوصاً أمام خطر واحد يهددها..

وأن الخطر الذى يتهدد العرب الآن هو الخطر الشيوعى القادم من الاتحاد السوفيتى، والعرب فى هذا يلتقون مباشرةً مع الغرب الذى يقف للاتحاد السوفيتى بالمرصاد، ويعوق تقدمه.

وكان نورى السعيد يؤكد ذلك بأن يشير إلى خريطة، ويقول لمن يناقشه باستمرار:

- "أن بين حدود العراق الشمالية وحدود الاتحاد السوفيتى مسافة عشرات الأميال، وإذا لم يكن هناك رادع فإن جحافل الجيش الأحمر قد تجتاز الجبال فى أى وقت، وتجتاح العالم العربى كله".

** كان عبد الناصر يرد على ذلك بتفنيد حجج نورى السعيد:

- "... نحن قادرون على إرغام الاحتلال الأجنبى فى أرضنا على أن يحمل عصاه ويرحل".

- "... ولن يكون فى المنطقة فراغ بعد رحيله، لأن المنطقة ليست فضاءً عارياً، وإنما المنطقة تسكنها أمة عربية قادرة على الأخذ بأسباب القوة".

- "... و"الاعتماد المتبادل" مرغوب فيه، ولكن على أساس وحدة المصلحة والأمن، وبالتالى فإطاره الممكن الوحيد هو الإطار العربى".

- "... والخطر لن يجيئنا من الشيوعية ولا من الاتحاد السوفيتى، وإنما الخطر الأكبر علينا - وتحديد العدو أول خطوة فى رسم أية استراتيجية - هو من إسرائيل".

- "... وعلى فرض أن الخطر من الشيوعية، فإن الوطنية هى درع المقاومة الحقيقية".

- "... ثم أن الخطر السوفيتى لن يجىء بالجيش الأحمر زاحفاً عبر الجبال الشمالية، لأن ذلك - لو حدث - سوف يحرك موازين دولية كبرى".

- "... ومع ذلك فلننشئ نظامنا العربى المستقل.

وليكن هذا النظام موجهاً بالدرجة الأولى ضد إسرائيل، ثم ليكن بعد ذلك موجهاً إلى أى خطر يجيئنا من أية ناحية، نصده بكل قوانا، وليس هناك بأس فى هذه الحالة من أن نطلب نجدة القادرين على نجدتنا ضده".

** وكان نورى السعيد يسوق حججاً لتدعيم وجهة نظره:

* "كيف نسلح جيوشنا إذا لم نتعاون مع الغرب، ومن أين نجىء بالسلاح الذى نواجه به إسرائيل؟".

* "إن تركيا وإيران وباكستان معنا فى حلف، وسوف يحاربون فى صفوفنا ضد إسرائيل؟".

* "إن هناك رباطاً يشدنا إلى هؤلاء الثلاثة، وهو رباط الإسلام".

** وكان جمال عبد الناصر يرد:

* "إن الغرب - الولايات المتحدة بالذات - لن تسلحنا لحرب نخوضها ضد إسرائيل".

"وقد أكدت التطورات صحة رأى جمال عبد الناصر، فبعد انهيار حلف بغداد ثبت أن كل ما حصلت عليه العراق من المساعدات العسكرية الأمريكية كان ثلاث طائرات"!

* "إن تركيا وإيران وباكستان لن تحارب معنا ضد إسرائيل، لأنها لا تشعر بخطرها وهى عنها بعيدة".

* "إن رباط الإسلام مقدس، وهو لا يشدنا إلى هذه الدول الثلاث وحدها، ولكنه يشدنا إلى شعوب وأمم مسلمة فى أقاصى آسيا وأعماق أفريقيا (إندونيسيا، الملايو فى آسيا مثلاً - والسنغال وغينيا فى أفريقيا مثلاً)..

لكن رباط الإسلام المقدس شىء، ووحدة المصلحة والأمن شىء آخر، خصوصاً إذا ارتكزت إلى جانب الدين على وحدة التاريخ ووحدة الثقافة ووحدة اللغة ووحدة الامتداد الجغرافى المتصل".

وانفرد نورى السعيد بموقف وحده، فوقع بغير إخطار ولا سابق إنذار حلف بغداد مع تركيا... ولم يقف عند هذا الحد.

وإنما وجه الدعوة مفتوحة إلى بقية الدول العربية، خصوصاً فى المشرق، لكى تنضم إلى الحلف الجديد، وكان الضغط الغربى على أشده فى عواصم تلك الدول، يحاول أن يجرها جراً إلى حلف بغداد.

فى هذه اللحظة فقط تحرك جمال عبد الناصر إلى تصعيد خلافه مع نورى السعيد وكانت وجهة نظره:

"لو اقتصر الأمر على العراق لقلنا دولة تمارس حقوق سيادتها المشروعة، والحكم على سياساتها يعود لشعبها أولاً وأخيراً.

ولكن توجيه الدعوة إلى بقية الدول العربية والضغط عليها حتى تنضم إلى حلف بغداد، هدم لكل أمل فى إقامة "نظام عربى" مستقل.

واحتدمت المعركة.

ووقفت السعودية وسوريا مع مصر.

وانتهت المعركة بسقوط حلف بغداد فى بغداد، وبواسطة الشعب العراقى وجيشه.

نلاحظ هنا عدة أشياء:

1- أن جمال عبد الناصر لم يفتعل الخلاف.

2- أن جمال عبد الناصر كان فى موقف الدفاع، ولم يكن فى موقف الهجوم.

3- أن جمال عبد الناصر كان على حق، بنتيجة التجربة التاريخية.

4- أن جمال عبد الناصر لم يعتمد على شىء، إلا على جماهير الأمة العربية وعلى وعيها.

وربما أضفت هنا ملاحظة سريعة فى الرد على هؤلاء الذين يقولون أن جمال عبد الناصر أضاع ثروة مصر فى "مغامرات" خارجية، وهم بالطبع يقصدون حركته العامة داخل العالم العربى ومن حوله..

هذه الملاحظة هى أن "المغامرات" - كما يسمونها - هى فى حقيقة أمرها التزام قومى، فإذا طرحنا موضوع الالتزام القومى جانباً ونظرنا إلى هذه المغامرات نظرة ضيقة وإقليمية، وحتى حسابية، لقلنا أن هذه "المغامرات" لم تكن خسارة لمصر، وإنما كانت كسباً لها.

ذلك أن قيمة أى دولة فى العالم - خصوصاً فى عصر الحرب الباردة - أصبحت ترتبط بمقدار تأثيرها خارج حدودها الضيقة، وقد حصل جمال عبد الناصر من العالم الخارجى "بمغامراته" ما يتعدى قيمة مصر داخل حدودها، لكى يوازى تأثير مصر خارج هذه الحدود.

والبرهان العملى على ذلك هو الأرقام، فمصر "المغامرة" استطاعت أن تنمى بمعدل زيادة قدره 6.7 بالمائة سنوياً فى الفترة ما بين 1955 إلى 1965، طبقاً لوثائق البنك الدولى، وأما مصر "غير المغامرة" الطيبة المؤدبة المطيعة، فإن الادخار القومى - أساس التنمية - فيها سنة 1975 كان 1.2 بالمائة بالناقص، طبقاً لأرقام التخطيط المصرى!

وكانت معركة حلف بغداد نموذجاً لمعارك أخرى خاضها جمال عبد الناصر تحت شعارات عدم الانحياز، وكان كثيرون لا يؤمنون به فى العالم العربى، وتحت شعارات التنمية، وكانت مفهوماً وافداً على العالم العربى، وتحت شعار "الاشتراكية"، وكانت شيئاً شبه مكروه فى العالم العربى. وإذا التفتنا حولنا الآن، فماذا نجد؟

ما كان ينادى به جمال عبد الناصر بالأمس ويحارب بسببه هو الآن عقائد أساسية فى العالم العربى.

العالم العربى كله ينادى بالموقف المستقل.

والعالم العربى كله يتبنى سياسة عدم الانحياز.

والعالم العربى كله يتجه نحو "الاشتراكية"، وإن اختار لها البعض مسميات أقل عنفاً وأكثر رقةً مثل "العدالة الاجتماعية".

ويقال:

- "لم يكن هناك بأس فيما دعا إليه ودافع عنه... ولكن المشكلة كانت مشكلة الأسلوب... أسلوب التحريض والإثارة... إدارة السياسة من الشرفات وأمام الميكروفونات... هذه هى القضية".

والرد على هذه النقطة كما يلى:

1- أليست كل دعوة جديدة تقابل بالصد، مما يجعلها أمام ضرورة الإلحاح بكل الوسائل... لنقرأ التاريخ، ولا أحتاج هنا لضرب الأمثلة من حياة روّاد التغيير أو حتى الإصلاح، ومن حياة رواد الفكر أو حتى رواد العلم.

2- لقد كان العصر عصر الحرب الباردة... كانت حرباً سلاحها التأثير بواسطة الكلمة والصوت، بدلاً من القنبلة والطائرة.

3- لقد كان على جمال عبد الناصر أن يخاطب جماهير تقع تحت السلطة الرسمية لهؤلاء الذين يقاومون دعوته.

4- لقد كان جمال عبد الناصر الصوت الوحيد المسموع فى كل المنطقة من الخليج إلى المحيط، وكانت كل القوى تنتظر كلمته، وكان ضرورياً أن يتكلم.

وربما تذكرنا أن جمال عبد الناصر خاض معركة الأحلاف، وانتصر فيها بغير رصاصة واحدة، وبغير نقطة دم واحدة.

ومع ذلك، فلنكن منصفين، ونسأل:

- لقد رحل جمال عبد الناصر فى 28 سبتمبر 1970، فهل سكنت الأعاصير بعده على الأرض العربية.. وهل عاد الورد وزال الشوك، وأقبل الود وأدبرت الفتنة فى العلاقات ما بين العرب؟

إن كان هو الذى يثير ثائرة الكل على الكل، فما بالهم لم يخلدوا إلى الهدوء والصفاء بعد رحيله؟

والعلاقات بين مصر وسوريا ليست هدوءً وصفاءً.

والعلاقات بين مصر والثورة الفلسطينية ليست هدوءً وصفاءً.

والعلاقات بين مصر وليبيا ليست هدوءً وصفاءً.

والعلاقات بين مصر والأردن ليست هدوءً وصفاءً.

وهذه كلها هى خطوط المواجهة مع العدو الواحد، أو هى عمق جبهة المواجهة!

* وبعد ذلك:

العلاقات بين سوريا والعراق ليست هدوءً وصفاءً.

العلاقات بين ليبيا والمغرب ليست هدوءاً وصفاءً.

* وهناك ثلاث حروب محتملة أو قائمة فعلاً على الساحة العربية.

حرب بين الجزائر والمغرب.

معارك على الحدود بين اليمن الجنوبى وسلطنة عمان.

توتر شديد بين العراق وسوريا.

* وأسوأ من ذلك كله، حرب أهلية عربية لم نفرغ بعد من تضميد جراحها فى لبنان، وكانت خسائر الأمة فى هذه الحرب الأهلية وحدها أربعة عشر ألف قتيل، وأكثر من خمسين ألف جريح، وهذا كله أكبر من خسائر مصر البشرية فى كل المواجهات مع إسرائيل، من حرب فلسطين 1948، إلى حرب السويس 1956، إلى حرب يونيو 1967، إلى حرب الاستنزاف 1969، إلى حرب أكتوبر 1973!

كل هذا وجمال عبد الناصر بعيد، لا يحرض أحداً ولا يستثير أحداً!

لعلى أقول فى النهاية أن دور مصر يجب أن يكون موجوداً فى العالم العربى، سواء اتهمت بالتدخل فى شئون الآخرين أو لم تتهم.

ومع ذلك، فلعلى أزعم أن مصر مارست، وهى تستطيع أن تمارس، دورها بغير تدخل فى شؤون الآخرين.

وفى كل الأحوال فإن مخاطر تدخل مصر... أقل من مخاطر سكون مصر.

وأعترف أننى لم أكن سعيداً بدور مصر فى الأزمة اللبنانية التى تحولت إلى شبه حرب أهلية عربية.

وأعترف أيضاً أننى لم أقتنع بحجة "عدم التدخل" كعذر يقدم لسكوت مصر، كما أننى لم أقتنع بمنطق يقول أن عوامل الجغرافيا السياسية GEOPOLITICS كانت تسمح لسوريا مثلاً، ولا تسمح لمصر، بدور إيجابى فى حل الأزمة اللبنانية.

إن الادعاء "بعدم التدخل" مردود عليه بدواعى المصير الواحد فى وسط معركة تخوضها الأمة فعلاً، ولا تنتظر الغد لتخوضها.

ثم أن التعلل "بالجغرافيا السياسية" وأحكامها مردود عليه بأن القبول بمثل هذا المنطق لا يضيع دور مصر فحسب، وإنما يضيع مصر كلها، من حيث أنه يعزلها عن بقية العالم العربى عزلاً كاملاً.

إن عامل "الجغرافيا السياسية" يظهر فى الأمة الواحدة إذا ضاع منها دور المحرك الرئيسى، ومصر هى المحرك الرئيسى فى المنطقة.

ولكى أشرح هذه النقطة أكثر، أقول:

إذا أخذنا بأحكام الجغرافيا السياسية، واستبعدنا حقيقة الأمة الواحدة والقوة الرئيسية المحركة فيها، فماذا نجد؟

* نجد شبه الجزيرة العربية وحدة جغرافية سياسية، وهى تشمل السعودية، واليمن الشمالى واليمن الجنوبى، وعمان، والإمارات العربية المتحدة، وقطر، والبحرين، والكويت..

* ونجد الهلال الخصيب وحدة جغرافية سياسية أخرى، وهى تشمل سوريا ولبنان والعراق والأردن وفلسطين.

* ونجد المغرب العربى وحدة جغرافية سياسية ثالثة، وهى تشمل المغرب والجزائر وتونس، وربما ليبيا.

* وأخيراً نجد وحدة جغرافية سياسية رابعة هى وادى النيل.

وبهذا المنطق: أين تكون مصر، ومن يبقى معها؟

يبقى السودان، وهو بحكم الجغرافيا السياسية ينجذب إلى شرق أفريقيا، بمقدار ما ينجذب إلى شمال وادى النيل!

ولست أعرف إذا كان ذلك ما نريده؟

ثم أذكر بشىء:

- لقد كان بين الأسس التى تم عليها حل الأزمة اللبنانية هو العودة إلى "اتفاقية القاهرة"، التى نظمت علاقات المقاومة الفلسطينية مع السلطة اللبنانية.

اسمها "اتفاقية القاهرة"، لأنها عقدت فى القاهرة، يوم كانت القاهرة: "مغامرة"!

كانت الخلافات إذن قبله، والخلافات مستمرة بعده.

ولربما تغيرت الخطوط، وتبدلت الصداقات والخصومات، وخفت موازين وثقلت موازين.

لكن الخلافات مستمرة، والصراع دائر.

بل لعلنا ننسب إلى جمال عبد الناصر فضل "تمدين" الخلافات العربية، فقد رفعها من مستوى ثارات قديمة بين الملوك والقبائل والعشائر والطوائف - فجعلها حركة جماهير، وقضايا مستقبل ومصير: استقلال سياسى - تحرر اجتماعى - نضال وحدوى - تأثير عالمى - موارد تعود إلى أصحابها - سيطرة الشعب على وسائل الإنتاج - تخطيط... تأمينات... تصنيع... تأميم... زرع صحارى - بناء سدود - إلى آخره... إلى آخره.

أى صوت كان هناك بالنداء على هذا كله أعلى من صوته؟ وأى حركة كانت هناك نحو هذا كله أقوى من حركته؟

من؟ وأين؟

0 comments:

إرسال تعليق

 
تصميم وتنفيذ الادارة التنفيذية